عبد الرزاق بوتمُزّار

ح. 26

“أوطم”.. شيوخٌ ومُريدون

الجامعة فضاءٌ مفتوحٌ على جميع الاحتمالات والتوقّعات؛ عالمٌ تُصاارع فيه أفكارٌ وتوجهاتٌ فكرية “مُتفتّحة” حدَّ التطرّف أفكاراً أخرى “مُنغلقة” حدّ التطرّف! فما بين اليسار واليمين، ما بين الإيديولوجيا والحيّاد، ما بين الالتزام والتحرّر، ما بين التبعيّة الفكرية كأضعف الإيمان، وبين الاستقلال كأقصى الأماني.. تتقاسم “الفصائلُ” المُسيطِرة على رحاب الحرم الجامعيّ، انتماءاتٍ وتوجّهات، “جيوش” الطلبة ضمن الإطار الوحيد الذي “تبنّى” هُمومَ الجسد الطلابيّ المغربي وانتظاراته: الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أ. و. ط. م)..

كانت استراحة العاشرة صباحاً ساعةَ الذروة بالنسبة إلى الناشطين في صفوف “أوطم”. في هذا الفاصل الزّمني بين المُحاضَرات، كان كلّ فصيل طلابي يستنفر ترسانته التنظيمية وينزل إلى السّاحة لعرض إحدى “الإشكالات” للمُدارَسة في حلَقيات يُنشّطها “زعماءُ” حالمون، وقد التفّ حولهم جمهورٌ من المُريدين أو المتعاطفين، الذين “ينسى” معظمهم، بعد ذلك، العودة إلى مُدرَّجاتهم وفصولهم..

أحياناً، ومن مُجرَّد حلقة صغيرة لا يكاد يتجاوز مجموع مُنشِّطيها ومُتابعيهل عشراتِ الأفراد قد يتكوّن، على حين غرّة، حشدٌ هادر من الطلبة، يجوبون أروقةَ الحرم مُردِّدين شعارات وهُتافاتٍ على إيقاعات مختلفة. بالنسبة إلى “الجُدُد”، كان هذا النوع من ممارسة “الحق في الاحتجاج” طارئاً ويستدعي الحدَّ الأدنى من المُساءلة والدّهشة، قبل تقرير “الانصهار” في صفوفه وتبنّي قضاياه أو صرف النظر عن المسألة والاكتفاء بالمُداوَمة على حضور المُحاضَرات والدّروس وترْك مناقشة مثل هذه الأمور للزّمن، وحده، يُقرّر فيها بالرّفض أو بأدنى مستويات التعاطف.

كثيراً ما كنتُ أجد اصطحاب إحدى “الرّفيقات” في جولة صباحية، مُوغلـَين في الأحراش المحيطة بالكلية، أو حتى في زوايا البناية الظليلة والموحشة، أجدَى من “ضجيج” كثير من تلك الحلقيات. والحقيقة أنّني كلما وقفت في إحدى حلقيات الكلية وتطلـّعتُ إلى مُنشّطها الرّئيس عادتْ بي الذاكرة، عبر تقاسيم وجهه وحركات شفتيه، إلى سنتي الأولى في الثانوية، حيث كنتُ واحداً من “زعماء” حركة الاحتجاج في موسى بن نصير إبّان العدوان الأمريكي -الغربي على العراق في مطلع التّسعينيات..

كنّا نخوض وقفة احتجاجية وسط ساحة المؤسّسة، مُحاطين بالمدير وبالحارس العامّ وبجيشٍ عرمرم من الإداريين والمعاونين، الذين لمْ أنتبهْ قبل ذلك اليوم إلى أنهم بكل تلك الكثرة.. خاطبَنا المدير بلباقة في البداية، محاولاً إقناعَنا بضرورة تحكيم العقل والالتحاق ببقية زملائنا في فصول الدّراسة و”الكفّ عن إضاعة الوقت في ما لا يفيد مستقبلكم في شيء”..

جملة قالها السّي عبد العالي لغاية، لكنها أتت عكس ما أراد تماماً.. بعد لحظات من خطابه، توجّهنا رأساً، إثر لحظة تنسيق قصيرة، نحو الأقسام التي كان داخلها تلاميذ يتابعون دروسهم. كانت خطتنا تقضي بأن نقتحم، منقسمين إلى مجموعات تتولى كلّ واحدة منها قسما من أقسام الثانوية، حُجرات الدّرس وندعو الزّملاء إلى مقاطعة الدّروس في ذلك اليوم وفي الأيام المُوالية. كنتُ أتقدّم صفوف إحدى المجموعات. اندفعتُ نحو باب الفصل، وبعد طرقات سريعة، دخلتُ دون انتظار الإذن بذلك، يتبعني عشرات التلاميذ. ووجدتُني، لأول مرّة في حياتي، أؤدي دور الزّعيم:

-لتعذرْني، أستاذ، على اقتحامي حصّتك، لكنّ خطابي موجَّه إليكم أنتم..

قلتها مُتلعثماً، قبل أن أستجمع قواي وأتابع، تُشجّعني نظراتُ مَن كانوا يحيطون بي وحركات رؤوسهم:

-اسمعوني من فضلكم، أعيرُوني انتباهكم للحظةٍ فقط، ثمّ عودوا لمواصلة الاستماع إلى الأستاذ إن شئتم؛ لكنْ قبل ذلك اعلموا أنه في هذه اللحظةِ بالذات يتعرّض تلاميذُ مثلكم في بلاد العراق الشّقيق؛ تتعرّض أمّهاتُهم وأخواتهم وآباؤهم وأجدادُهم ورُضّعهم وأطفالهم لأبشع أنواع التقتيل والقصف الغاشم.. وإذا كنتم تعُدّون أنفسَكم غير معنيّين بما يجري لأقرانكم هناك ولا بما يجري في هذه السّاحة حيث يحتجّ تلاميذ مثلكم فلكم أن تواصلوا الاستماع إلى…

لم يترُكني أكمِل جملتي، التي كانت الأخيرة في خطابي المُرتَجل. تسلـّلَ، بقامته القصيرة، وهو يمشي على رؤوس أصابع قدميه، إلى أن وقف خلفي مباشَرةً. لم أنتبه إلى ما يحدُث وراء ظهري إلا من خلال التلاميذ الذين كانوا يحيطون بي؛ تفرّقوا مُبتعدين في ارتباك، مُصْدرين ما يُشبه تحذيرات؛ لكنْ كان الأوان قد فات. بسرعة، خطفَ مُدير الثانوية دفتري من يدي وهو يقول، مُحرّكاً رأسه، الكبيرة كرأس عِجل، وقد علتْ ابتسامة شامتة وجهه الدّائري بلحية تُزيّنها شعرات بيضاء متناسلة:

-تـّبارْكْ الله، تـّباركْ الله! سايْر تخطبْ عْليهُم وْمخلـّي دُروسْك.. ياكْ ما كالو ليكْ أنتَ هو گيفـَارا!؟ إيوَا مْلي تـْجي عْندي دابا نـْورّي لوالديكْ لفهاماتْ لخاويينْ فينْ كيوصّلو..

سبقتِ التلاميذَ الذين كانوا يُحيطون بي ضحكاتُهم وهم يغادرون القاعة مسرعين. أمّا أنا فقد أسقِط في يدي ولم أعد أعرف ما أنا فيه. رحتُ أتطلع إلى الدّفتر بين يدي المُدير وأنا أفكّر في المصير الذي ينتظرني بين يدَيْ والدِي، اللتين لا ترحمان، بعد أن يعرف بأمر “جنحتي” الجديدة..

كان لكلماتي مفعولٌ أقوى ممّا توقعت؛ فقد قام معظم تلاميذ القسم وغادروا أماكنهم مُشكّلين دائرةً حولي، في ما يُشبه طوقاً لحمايتي من أيدي المدير ومُساعديه؛ قبل أن نُغادر الفصل مُتدافِعين، لنجد أنفسنا، مُجدَّدا، وسط ساحة المؤسّسة وقد صارت تعُجّ بأعداد إضافية من المُحتجّين، بعد أن غادر جُلّ التلاميذ المواظبين فصولهم بعد خطابنا التحريضيّ.

لم يهدأ لي بال بعد تلك الواقعة إلا بعد أن مرّتْ أيام، فأسابيع، دون أن أتوصّل، عكسَ توقعاتي، بأيّ استدعاء من إدارة الثانوية. ظللت لمدّة طويلة أتحسّر على ذلك الدفتر (وكان من فئة 400 ورقة). حطّطتُ وأنا أشتريه لأن “أجمع” فيه موادّ كثيرة، لكنّ المدير، الماكرَ القصيرَ، “جمعه” مني في ذلك الصّباح البعيد؛ وإنْ كان، لحُسن حظي، لم ينفعْه في تحقيق مبتغاه من وراء نزعه مني بتلك الطريقة؛ فقد تأكـّدتُ، لاحقاً، من أنّني لم أدوّنْ فيه بعدُ اسمي ولقبي، ما أنقذني من علقة “حارّة” إضافية بيدَي السّي بوجمعة.

انتشلني صوتُ ماوكلي وهو يهوي على كتفي بضربة قوية، داعيا إيايَ إلى مرافقته إلى مقصف الكلية لاحتساء كوبَي شاي وهو يُريني قطعة “معجون” كفيلة بأن تـُرسل عقلينا إلى الضّباب بعد حين. تبعتُه وأنا ألتفتُ إلى الشّاب وسط الحلقية أودّع، عبر تقاسيمه، خيوط ذكرياتِ أيام كنتُ فيها “زعيماً”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *