عبد الرزاق بوتمُزّار
ح. 2
الإِجازة والعِجازة
عندما أنهيتُ مشوار دراستي الطويلَ بالحصول على الإجازة لم أكنْ كثيرَ تفاؤل بما ينتظرني من فُرَص لولوج ميدان الشّغل. ثمّة قناعةٌ كانت قد ترسّختْ لدى جيلنا بهذا الخصوص وحوّلتها إلى شبهِ يقينٍ مُعاينتُنا أفواجا ًمُتعاقبةً من المُعطلين الذين كانت الجامعات تلفظهم كلَّ عام بالآلاف.
كانت لديّ أحلامي وتطلعاتي الكبيرة، رغم جميع المُؤشِّرات التي كانتْ بلون القتامة. كنتُ قد طوّرتُ موهبة في الكتابة، اكتشفتها منذ نعومة أصابعي. ومن هذا المنطلق، كنتُ أحاول إقناع نفسي بألا أستسلم، على الأقلّ بسُهولة ودون مُقاوَمة، لمشاعر اليأس والتّشاؤم التي تمكّنتْ من جُلّ أصدقائي وزملائي الذين قاسَموني مقاعدَ الدّراسة والتحصيل؛ تحْصيلٍ سرعان ما سينقلب إلى “حْصْلة” حقيقية فور حصولنا على شهادة “العِجازة”، كما كنّا نُسمّيها؛ لكون الكثيرين ممّن نالوها قبْلَنا صاروا عاجزين عن الاندماج في الحياة، فسقطوا فرائسَ سهلةً بين مخالب التذمّر والتشرّد والإيغال في عوالم الضّياع والشّرود عما يجري، إلى أن انتهوا إلى ما يُشْبه الأطياف، لا يكاد أحدٌ ينتبه لوُجودهم أو يهتمّ بهم سوى ذويهم.
وإحساسُ أفراد عائلة مُجاز مُعطـَّل نحو الأخير يتوزّع بين تضامُنٍ، سرعان ما يتحوّل إلى مُجرَّد شفقة؛ وبين شفقةٍ تنقلب، مع مرور الوقت، إلى رفضٍ لواقع البطالة الدّائمة التي يعيشها ابْنُهم خِرّيجُ الجامعة. كانت الأُسَر المغربية تبني على “مُستقبل” ابنها الخرّيج أحلاماً كبيرة، ما تلبث تتهاوى أمام قسوة الواقع وانسداد الأفق.
طيلة السّنوات الأربع التي أمضيتُ بين أسوار كلية الآداب والعلوم الإنسانية ومُدرّجاتها لم أكن أحضُر إلا مُحاضَرات قليلةً. كان يكفيني أن أمضيّ ساعة أو بعضها أمام الأستاذ المُحاضِر لأحكم عليه وأصنّفَ مُحاضَراته ضمن أولوياتي أو أُخرجَها، إلى الأبد، من دائرة اهتناماتي. في المقابل، كنتُ مهووساً بقراءة الكتب الأدبية، خُصوصاً منها النصوص الرّوائية والقصصية لكبار المُبدِعين.
قبل ذلك، وعلى امتداد سنوات دراستي الثانوية، كانتْ تُلازمني، دوماً، مُذكّرة صغيرة أسجّل فيها عنوان أيِّ عمل أدبيّ سمعتُ عن قيمته الفنية ولم أستطعْ -لسبب ما- قراءته. هكذا، كانت الخزانةُ أحدَ الأماكن التي ربطتْني بها علاقة خاصّة منذ أول يومٍ لي بين رحاب الكلية إلى غاية اليوم الذي غادرتُها فيه مُتأبّطاً مطبوعاً يُضيف اسمي إلى قائمة العُجازين، عفواً، المُجازين…
