عبد الرزاق بوتمُزار
ح. 20
حيـن يستديرُ الأستاذ فجأةً..
كثيرةٌ هي الأوقات واللحظات التي ورّطنا خلالها ظروف غيرُ مفهومة في مواقفَ وأوضاعٍ تستدعي، في نظر المُدرّسين، عقوبةً من صنف ما يُنزلون على ذلك التلميذ البائس منّا الذي يُضبَط مُتلبّسا؛ وإنْ كان في معظم تلك المواقف لا يعرف ما يحدُث ولا كيف وجد نفسه في تلك الورطة.. في غفلة من الأستاذ، قد ينخرط تلاميذ الفصل بأكملهم، وفجأة، في حالةِ تراشُق بالأوراق والمُتلاشيّات. وقد ينخرط أحدُ الصفوف أو حلقة محدودة منه في نوباتِ ضحكٍ جماعيّ، جرّاء كلمة أو تعليق أو حركة من أحدهم. كما قد يشرع أحد التلاميذ في تقليد الأستاذ، من خلف ظهره، كاسراً رتابة السّير المُملّ للحصّة الدّراسية في نظره. لكنّ الأستاذ قد ينتبه إلى بعض هذه الحركات، صُدفةً في الغالب، لينقلب الموقف إلى دْرامَا حقيقية، خُصوصاً إذا كان الموقف الذي تورّط فيه التلميذ يدخل ضمن السّلوكات غير المقبولة داخل فصل دراسيّ.
يحضُرني، الآن، موقفُ تلميذة لم تتشجّع، ذاتَ حصة، للمُشارَكة في عملية تراشُق جماعيّ إلا في الوقت الذي اختار الأستاذ المُستغفَل (وكان يدرّسنا الإنجليزية) أن يستدير نحونا، بعد أن استغرق وقتاً طويلا في تدوين معلومات على السّبورة. أمسكتْ التلميذة غير المحظوظة قطعة الورق المضغوطة نفسها التي رماها بها أحدُ التلاميذ قبل لحظات، وقامت من مقعدها لتُعيد للمُعتدي ضربته؛ لكنْ.. ما إن رفعت المسكينة يدها لتقذف زميلها حتى استدار الأستاذ وعايَنَ بأمّ عينيه الموقف الغريبَ الصّادر من “إحدى أكثر التلميذات هدوءاً داخل المجموعة كلها”، كما كان يصفها..
أتذكّر باستمرار، أيضاً، موقفَ عبد الإله ومحمد؛ ففي إحدى الحصص الدّراسية المسائية، كانا يجلسان قريبا مني، وكنتُ أعمد خلال تلك الحصّة إلى إخفاء جهاز راديو صغير داخل محفظتي وأشغّله، بطلب منهما في الغالب، فألتقط برنامجا موسيقيا مسائيا صاخبا كان يُبثّ حينها ويحظى بنسبة استماع كبيرة، فكنّا نستغلّ عدم انتباه الأستاذ ونستمتع بحصة من الموسيقى في مؤخرة الصفّ. لم يكن راقصَا المجموعة يكتفيان بالاستماع، بل يقفان، في فترات مُتقطعة خلال الدّرس، ويُؤدّيان رقصات غربية أمام أنظار الفصل كله، ما عدا ناظرَيْ الأستاذ المسكين. أحياناً أخرى، كان الأخير يضبطهما مُتلبّسَين بالرّقص، بدل متابعة شروحه التي يكون بصدد تدوينها على السبورة. ولطيبوبته وسماحته، كان يأمرهما فقط بأن يقفا، على ساق واحدة، إلى الجدار الخلفي ّللفصل ويلبثا على تلك الحال إلى أن ينقضيّ ما تبقى من وقت الحصّة..
وأذكر أنّني كنتُ، بدوري، ضحيةً لبعض هذه المواقف السّخيفة حينها، والتي حوّلها توالي السّنوات إلى ذكريات جميلة؛ رغم أنّ النّتائج التي ترتّبتْ عنها، في إبّانها، لم تخدُمْ في شيء مسارَنا الدّراسي وعلاقاتنا مع أساتذتنا، الذين كانوا يجدون أننا نُمثل عيِّناتٍ حقيقيةً من جيلٍ كان البعض يصنّفونه بأنه “جيل قِمّشْ ما يْحشمْ ما يْرِمّشْ”!..
