بالدمع والحنين، يروي، الأبناء جمال الشيشاوي، وحسن السملالي، وصلاح الوديع الآسفي، حكايات أمهات معتلقي سنوات الرصاص، في تكريم مستحق لسيدات بصمن تاريخ المغرب الحقوقي ببصمات خالدة..
بمناسبة 8 مارس، نفتح ملف أمهات المعتقلين السياسيين، وننقل شهادات عدد من أبنائهن، عن مسيراتهن النضالية، ومعاناتهن مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، قبل إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة وانطلاق مسلسل جبر الضرر.. فكانت الحقائق والمواقف المؤثرة في التقرير التالي..
أعده للنشر: جواد مكرم
يرى جمال الشيشاوي، أن أمهات معتقلي اليسار منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وحتى إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، كن هن المكرمات، اللواتي صالحتهن الدولة بجبر ضرر أبنائهن.
واستحضر المتحدث نفسه، في هذا السياق، تضحية والدته المناضلة الراحلة راضية بوشعرة، التي صنع منها سجن ابنها، شخصية أخرى، كان لها وقع كبير، في التشبع بقيم الحرية والكرامة، والدفاع عن حقوق الإنسان..
ويتذكر جمال الشيشاوي، بتأثر كبير، حياة والدته قبل اعتقاله من اجل مغرب ديمقراطي، بقوله:”كانت والدتي راضية بوشعرة، أم بسيطة غير متعلمة، تعيش تحت ظل رب أسرة وطني يجر من ورائه حضور قوي، في تاريخ المقاومة وجيش التحرير، حتى تغير كل شيء في حياتها”.
انطلقت الأم راضية بوشعرة وفق جمال، في مسيرة الدفاع عن عدالة قضية ابنها عام 1975، إذا كانت البداية مع رحلة البحث عن الطالب المختطف مجهول مصير، في مغرب سنوات الرصاص. وهو ما يوضحه المتحدث نفسه بقوله:” عند اختطافي، توجهت والدتي إلى من البيضاء إلى مسقط رأسها بسلا، طمعا في معلومة من امني من عائلة بنغموش التي تقربها، لكن دون جدوى”.
ظل الأمل، يقوي من عزيمة والدتي، في بذل المزيد من التضحيات، للوصول إلى مكان اعتقالي يحكي الشيشاوي، إلى أن جاءها الخبر، من جارة لنا كانت متزوجة، برجل امن ملحق بمعتقل درب مولاي علي الشريف بالبيضاء.
أضحت الأم راضية، في عين ابنها جمال، منذ مرحلة المحاكمة والترحيل، إلى السجن المركزي الشهير بالقنيطرة:”رمزا للصمود والمعاناة والشخصية الصلبة”، لا بل و”مشاركة إلى جانب أمهات معتقلين آخرين، في تدوين تاريخ النضال النسائي، من اجل الحرية والكرامة”..
وحدت محن سنوات الرصاص، معتقلي الرأي بالسجون، كما وحدت عائلتهم خارج أسوار المعتقلات المحروسة، يقول الشيشاوي:”لم تكن أمي، تعرف، فاس و تطوان و طنجة القنيطرة..، حتى محنت الاعتقال، التي حولت المعتقلين داخل الزنازن إلى عائلة كبيرة، والأمهات بالخارج، إلى اسر متضامنة”.
“مي فاطمة” أو فاطمة ايت التاجر، السيدة التي تعرف عليها المغاربة وهي تقديم شهادتها للتاريخ في أولى الجلسات المباشرة لهيئة الإنصاف والمصالحة، يعتبرها جمال الشيشاوي،”أم المتعقلين التي حولت منزلها بالقنيطرة، إلى قبلة لأمهات وأهالي السجناء، على مدى سنوات الانتهاك الجسيمة لحقوق الإنسان، زمن الجمر والرصاص”.

الاعتصام وكديرة
في رحلة البحث الطويلة عن حرية أبنائهن المغتصبة، ستدخل الأم راضية بوشعرة، و”الأم فاطمة السوسية” وهي والدة المحامي حسن السملالي، قيدوم المعتقلين السياسيين في تلك الفترة، و والدة المعتقل الصديق لحرش، وأمهات مناضلات أخريات، يروي الشيشاوي”في اعتصام بمسجد السنة بالرباط تضامنا دخول المعتقلين في إضرابهم عن الطعام الشهير، بإضراب 45 يوما، لتلقي عليهم الشرطة القبض”.
كانت أم المعتقل الصديق لحرش المتحدرة من عائلة سلاوية عريقة وذات القرابة مع المستشار الملكي عواد، يقول الشيشاوي:”هي من تولت الحديث أمام الشرطة بكوميسارية بلاص بيتري، عن هذه الاعتصام النضالي المطالب بتحقق مطالب السجناء، قبل أن يطلق سراحهن، وهن يرددن في حضور البوليس، كلنا إلى الأمام”.
يعترف المعتقل السياسي، بكون أمهات معتقلي سنوات الرصاص، هن ضحايا كذلك للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وهذا ما عبرت عنه شهادة”مي فاطمة” في إحدى جلسات هيئة الإنصاف والمصالحة، مضيفا أن”نضالات الأمهات ولقاءاتهن مع شخصيات كبيرة، كزوجة المستشار الملكي رضا اكديرة و الزعيم عبد الرحيم بوعبيد..لعب دورا كبيرا في مسلسل المصالحة والإفراج على أبنائهم المعتقلين وجبر الضرر” لقد كن آمل السجناء، وكانت أمي فسحة حريتي عند كل زيارة رحمك الله أمي”. يقول بتأثر كبير جمال الشيشاوي.
“مي فاطمة”أم المعتقلين
يرى حسن السملالي المعتقل السياسي السابق، أن والدته”مي فاطمة” أو”فاطمة السوسية”، هي”أم المعتقلين التي لم تستسلم”والتي كرمت بمحبة المغاربة، فيما تعتبرها ابنة شقيقها، حياة ايت التاجر، مناضلة كرست حياتها إلى جانب، ثريا السقاط وراضية بوشعرة وأم الصديق لحرش وفتيحة بنزكري وآخريات، ضد سنوات الرصاص..بانتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان.
وقال السملالي:”عندما أتذكر والدتي، أتذكر المرأة المغربية، التي واجهت الحياة بكل تحدياتها”مبرزا أن:”هناك خاصية في حالة أمي فاطمة، كانت تميزها، وهي الصمود”.
وأكد المتحدث نفسه في هذا الصدد:”بعد اعتقالي، اكتشفت أن والدتي، سيدة أخرى، لم أكن أتخيلها من قبل”مضيفا:”لم تستسلم والدتي، قط وسارت على طريق اعتز بكونها سلكته”.
كانت”مي فاطمة”، عند ابنها حسن،”شعلة في طريق رفض الظلم والتشبث بالحق”، لقد خاضت أم قيدوم المعتقلين حسب شهادته:”معركتين في نفس الوقت، معركة من أجل حرية ابنها، ومعركة لأجل كل المعتقلين رفاق الدرب، فكسبت من تقديرهم الكثير. رحمك الله أمي فاطمة”. يختم السملالي شهادته، بتأثر بالغ.
الناشطة الحقوقية حياة ايت التاجر ورفيقة”مي فاطمة”، في محن سنوات الرصاص ستقول:”لقد عاشت مي فاطمة من أجل الحرية، وماتت متشبعة بقيم الحرية، بعدما كرست حياتها للنضال، منذ اعتقال ابنها، حتى الإفراج وبعده”.
وكشفت حياة ايت التاجر، أن”مي فاطمة”، فتحت باب المنزل رقم 210 بشارع محمد الخامس بمدينة القنطرة لسنوات أمام أمهات وعائلات المعتقلين السياسيين، واستطاعت أن تضع بصمة “نفخرها كنساء مغربيات في مسلسل المصالحة والإنصاف”، لذلك تقول ايت تاجر:”فكل الأيام، هي عيدكن، عيد الحرية والكرامة.. أمهاتنا، مي فاطمة، ثريا سقاط، راضية بوشعرة، أم قادة، أم الصديق لحرش، أم بنزكزي وكل الأمهات المناضلات”..
الوديع…”أحن إلى شعر أمي”
قال صلاح الوديع المعتقل اليساري السابق، إن مرثية”احن إلي شعر أمي”، التي كتبها سابقا، في ذكرى وفاة والدته ثريا السقاط، تعكس الكثير مما يحن إليه في شخصية هذه المناضلة، التي كانت في طليعة أمهات المعتقلين السياسيين، دفعا عن الحرية و قيم العدالة..
وأكد، الوديع ، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، أن أمهات المعتقلين السياسيين، شكلن في تلك الفترة، قوة حقيقة في الدفاع عن الحقوق في شموليتها، وأن التاريخ، كرمهن بالمجد والخلود في الذاكرة الجماعية للمغاربة، معتبرا انه نظم عدة قصائد، وكتب عدة كتابات، عن والدته ثريا السقاط وعن اعتقاله، وعن أمهات سجناء اليسار، منها مرثية”احن إلي شعر أمي”التي ننشر منها التالي بموافقة من الوديع تكريما للمناضلة ثريا السقاط في اليوم العالمي للمرأة..
“وأنا داخل السجن، ظلت هي على عهدها كما كانت منذ كان عمري في حدود التاسعة، يوم كتبت أول بيت لي، كانت أول قرائي وصرت فيما بعد أول قرائها”.
بدأت ثريا تطلعني على قصائدها وأنا بعد في سجن القنيطرة المركزي، وقد استفدنا من الزيارات التي كانت تقوم بها، كل أسبوع طوال عشر سنوات إلا حين كان يقعدها المرض الذي عصف بحياتها قبل الأوان.

كان لنا حيز من الزمن نظل فيه رأسا لرأس، بعد أن حقق المعتقلون السياسيون مطلب”الزيارة المباشرة”، أي الزيارة بدون شبابيك.
أسمعتني ثريا أولى قصائدها واستكانت إلى ما كان لي من ارتسامات أو ما كان يبدو لي من ملاحظات.
لقد كانت تلك الجلسات التي استمرت حتى بعد خروجي من السجن، لحظات لم نطلبها من الزمن ولم يبخل بها علينا.
كانت كمثل الهدايا الآتية من مجرات أخرى، هكذا دون أن نحتسب …وستظل على حرصها على الكتابة إلى أن أصدرت ديوانها الوحيد “أغنيات خارج الزمن”، ولعلها كانت تعني الزمن الذي اختطفناه من هدير ما كان يحيط بنا طوال عقود بكاملها…
الحقيقة، لا زلت أحن إلى جلسة ثريا للكتاب، وإلى جلستها وهي تٌسمعني آخر ما كتبته، حنينا لا رادَّ له ولا سلوى”.
*المقال نشر لكاتبه الزميل محمد سليكي عام 2016 في جريدة “آخر ساعة” نعيد نشره في 8 مارس تكريما لسيدات النضال سنوات الجمر والرصاص.