الدكتور. هاشم صالح (مفكر سوري)
قبل عشرة أيام كنت عائداً من زيارة قصيرة إلى جنوب فرنسا. وفجأة لفت انتباهي في واجهة المكتبة بمطار مرسيليا هذا الكتاب، ففرحت به واشتريته على الفور. أقول ذلك وبخاصة أن مؤلفه هو فريدريك لونوار أحد كبار المختصين بفلسفة الدين في بلاد فولتير حالياً.
وعنوان الكتاب حرفياً هو «المعجزة: سبينوزا. فلسفة لإضاءة حياتنا». تصوروا الوضع: سبينوزا الذي أمضى حياته في تفكيك الخرافات اليهودية المسيحية تحول هو ذاته إلى معجزة! وبالفعل فإن إنجازات هذا الشخص تشبه المعجزة حقاً. فهو لم يعش أكثر من خمس وأربعين سنة (1632- 1677) ومع ذلك فقد أحدث خرقاً كبيراً في تاريخ الفكر. بل وقلب الدراسات الدينية اليهودية المسيحية رأساً على عقب. وقدم مفهوماً تنويرياً جديداً كلياً عن الدين. كيف استطاع تحقيق كل ذلك في مثل هذا العمر القصير؟ لذلك ليس من قبيل المبالغة القول بأن هذا الشخص يشبه المعجزة. ولهذا السبب أعجب به غوته ونيتشه وفرويد وأنشتاين واعتبروه أكبر فيلسوف. كيف استطاع هذا الشخص في أقل من عشرين سنة أن يحدث ثورة سياسية ودينية وأنتربولوجية وسيكولوجية وأخلاقية؟ وبما أنه لا يعترف إلا بالعقل ولا يتخذ غيره إماما هادياً فإنه يتموضع كلياً في أحضان الفكر الكوني اللازمني الذي ينطبق على جميع البشر وعلى كل العصور.
فالعقل واحد بالنسبة لليهودي والمسيحي والمسلم والصيني الكونفوشيوسي إلخ، ولكن العقائد مختلفة ومتنوعة. وعلم الفيزياء واحد في واشنطن أو طوكيو أو باريس أو أبوظبي أو دبي أو دمشق أو القاهرة.. إلخ.. ولكن الأديان تختلف. وبالتالي فعلى أرضية العقل والعلم والفلسفة يلتقي الجميع.
ونضيف من عندنا بأن الأديان الكبرى تدعو كلها إلى مكارم الأخلاق على اختلاف طقوسها وعقائدها وشعائرها. وبالتالي فعلى أرضية مكارم الأخلاق يلتقي الجميع أيضاً. وهنا نلاحظ أنه لا يوجد خلاف بين العقل والدين إذا ما فهمنا كل واحد على حقيقته وموضعناه على مستواه الخاص به. ولكن إذا ما فهمنا الدين بشكل انغلاقي تعصبي أو ظلامي تكفيري فعندئذ تبتدئ المشاكل وتشتعل الحرائق والنيران. وهذا ما كان سائداً في عصر سبينوزا وفي كل أنحاء أوروبا قبل ثلاثمائة وخمسين سنة بالضبط. وهو ما لا يزال سائداً في عالمنا العربي الإسلامي حتى اللحظة.
هكذا نلاحظ أنه لا يمكن فهم الإشكاليات الفكرية عندنا وعندهم إن لم نأخذ هذه الفجوة السحيقة التي تفصل بيننا وبينهم بعين الاعتبار. وهي ما يدعى بمسافة التفاوت التاريخي بين العرب/ والغرب.
فما كانوا يعانون منه قبل ثلاثة قرون ونصف نعاني نحن منه حالياً. ولهذا السبب فان جميع مفكري أوروبا آنذاك كانوا مشغولين بالمشكلة الأصولية أو مشكلة الإخوان المسيحيين. وكانوا يعتبرونها المشكلة رقم واحد. أما الآن فلم تعد الأصولية المسيحية تهم مثقفي فرنسا أو أوروبا على الإطلاق. وذلك لأنها أصبحت محلولة وفي ذمة التاريخ. فلماذا يهتمون بشيء غير موجود؟
- الظلاميات الدينية
منذ بداية الكتاب يقول لنا المؤلف بأن سبينوزا ظهر في عصر كانت تهيمن عليه الظلاميات الدينية اليهودية والمسيحية. وكان التعصب الأعمى يسيطر على العقول سيطرة شبه مطلقة. وكانت الحروب الطائفية بين المذهبين المسيحيين الكاثوليكي والبروتستانتي تجتاح القارة الأوروبية من أقصاها إلى أقصاها.
في مثل هذا العصر المضطرب عاش سبينوزا. ولذلك كان من الطبيعي أن يكرس كل جهوده لحل المشكلة الدينية أو المذهبية أو الطائفية. وما لم يتجرأ عليه أستاذه ديكارت تجرأ عليه هو عندما دخل مباشرة في صميم المشكلة الأصولية وشرحها تشريحاً. وكان ذلك بمثابة مغامرة جنونية في ذلك العصر. كنت تجازف بنفسك لا أكثر ولا أقل.
ولهذا السبب فلم ينشر كتبه الأساسية إلا باسم مستعار أو بعد موته. فماذا يستطيعون أن يفعلوا به بعد أن مات ودفن؟ هل ينبشونه من قبره؟ يبدو أن بعضهم فكر في ذلك. ولكن معظم الظلاميين اكتفوا بالبصاق عليه ولعنه وشتمه كلما مروا بالصدفة على قبره. وعلى الرغم من أن سبينوزا كان يفرق بين الدين في مثاليته العليا وبين التعصب إلا أنهم لم يغفروا له فعلته تلك. فعامة الناس لا تستطيع التفريق بين الدين/ ورجال الدين، أو بين الدين/ والتعصب الأعمى، أو بين المسيحية / والإخوان المسيحيين. وهنا تكمن المشكلة العويصة والبلية البلياء. كل من يلبس طربوشاً أو عمامة أو جلباباً دينياً يصبح مقدساً في نظر العوام: أي أغلبية الشعب في عصر سبينوزا.
في الواقع أن ما يدينه سبينوزا في جميع الأديان هو الانحراف عن رسالتها الجوهرية الوحيدة المتمثلة بالدعوة إلى العدل والإحسان عن طريق الإيمان. كل الأديان تدعو إلى مكارم الأخلاق، الإسلام كما المسيحية، ولكن المتدينين في عصور الظلام لا ينفذون هذا المبادئ ولا يطبقونها، وإنما يفعلون عكسها! يقول ما معناه: كم مرة لاحظت بكل دهشة واستغراب أناساً يعتزون بانتمائهم إلى الدين المسيحي ومع ذلك يفعلون عكس مبادئه ومثله العليا. فهذا الدين يدعو إلى المحبة والسلام والأمل والتعفف والصدق والإخلاص في كل الظروف. ألا يقول: أحبوا بعضكم بعضاً؟ ألا يقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر؟ إلخ.. ولكن ماذا يفعل المتدينون المؤمنون به؟ إنهم يتذابحون على الهوية بين كاثوليكي وبروتستانتي.
إنهم يكرهون بعضهم البعض كره النجوس. إنهم يتقاتلون فيما بينهم بكل ضراوة وعنف. وكم مرة رأيتهم في الحياة اليومية وهم يضمرون لبعضهم البعض الضغينة والحقد؟ أين هي المحبة المسيحية؟ أين ذهبت مبادئ الدين ومثله العليا؟
- شهادة شخصية
للبرهان على كلام سبينوزا ليسمح لي القارئ أن أدلي هنا بشهادة شخصية. عندما دعيت قبل سنوات عديدة لإلقاء محاضرة في المكتبة العامة بمدينة لاهاي قال لي أحدهم على هامش المحاضرة: هل تعلم بأن الإنسان الكاثوليكي ما كان يشتري حاجياته من عند المتجر المجاور له بل والملاصق لبيته لأن صاحبه بروتستانتي وليس كاثوليكيا مثله؟ وهل تعلم بأنه كان يمشي مسافة بعيدة أحياناً ويتكلف جهداً مضاعفاً لكي يعثر على تاجر كاثوليكي ويشتري حوائجه من عنده؟
أعترف بأني فوجئت بهذا الكلام لأن هولندا في القرن العشرين غير هولندا في القرن السابع عشر، عصر سبينوزا. فقد تعلمت وتطورت كثيراً وقضت على الأصولية قضاء مبرماً. ولكن الحزازات المذهبية عنيدة ورازحة. ويبدو أنها كانت لا تزال موجودة حتى عام 1950. بالطبع الآن انتهت نهائياً ولم يعد لها من وجود. ولكنها شغلتهم على مدار ثلاثة قرون أو حتى أربعة حتى تم حلها.
لذلك أقول بأن الطائفية مشكلة خطيرة جداً وليست مزحة بسيطة. وتنوير العقول لا يمكن أن يحصل بسرعة أو دفعة واحدة، وإنما على مراحل وبعد جهد جهيد. ينبغي أولاً أن تنتصر الرؤيا التنويرية للدين على الرؤيا الظلامية الراسخة في العقول منذ مئات السنين. ولكن المشكلة هي أن هذه الرؤيا الظلامية مكرسة في برامج التعليم والثقافة الدينية القديمة ككل. والآن تكرسها الفضائيات التي لم تكن معروفة في عصر سبينوزا. وبالتالي فليس من السهل إزاحتها وإحلال الرؤيا التنويرية والعقلانية الحديثة محلها.
بهذا المعنى فان الإخوان المسلمين وكل مشتقاتهم من داعشيين وتكفيريين سوف يظلون شغلنا الشاغل لعشرات السنين القادمة. والتنوير العربي لا يزال بعيداً ولكنه حتماً على الطريق.. أعترف بأن التفجيرات الإجرامية التي أدمت السويداء فجراً وغدراً أصابتني في الصميم على الرغم من أني لا أعرف المدينة ولم أزرها حتى الآن. ولكني أعرف مدى شموخ أهلها ونبلهم وتعاليهم على الجراح. وعلى الرغم من كل ما يحصل من تفجيرات مرعبة ذات بعد طائفي واضح تجد بعض المثقفين المحترمين يكابرون ويقولون لك بأن العالم العربي ليس بحاجة إلى تنوير! وأنا أقول لهم: يلزمه «ألف» سبينوزا لكي يستطيعوا تنويره واستئصال شأفة داعشيته من أساسات أساساتها. وفاجعة السويداء العزيزة الأبية تقول لنا بأن معركة التنوير الكبرى لا تزال أمامنا وليست خلفنا على عكس الأوروبيين. والثقافة العربية لن تحظى بأي احترام على مسرح التاريخ بين الأمم إن لم تطهر ذاتها من كل هذه الفتاوى التكفيرية والظلاميات المتراكمة على مدار القرون. أصبحوا ينظرون إلينا شذرا في شتى أصقاع الأرض بسببها. وهي ظلاميات أصبحت تفجر العالم كله وليس فقط السويداء الشهيدة التي تصدت للبرابرة بكل قوة. فهي معقل الثورة السورية وصاحبة البطولات المشهودة ضد الاستعمار، ينبغي ألا ننسى ذلك. وقائدها سلطان باشا الأطرش كان قائداً لسوريا كلها يوماً ما. وبالتالي ففلول الدواعش لن يرهبوا أبطال بني معروف وجبل العرب الأشم.
لندخل في صلب الموضوع ولنسم الأشياء باسمها صراحة. كان الإمام الأكبر محمود شلتوت قد اعترف بإسلام الموحدين الدروز وإيمانهم وورعهم، ودعا إلى طي صفحة الماضي الأليم وتحقيق التقارب بين مختلف المذاهب الإسلامية. ولكن المشكلة هي أن الإخوان المسلمين وما نتج عنهم من نصرة ودواعش إلى آخره يكفرونهم مع بعض الفرق الأخرى ويدعون إلى ذبحهم شرعاً وإبادتهم. وهم يرتكزون في ذلك على فتاوى قديمة تعود إلى عصور الظلام.
وبالتالي فالمسؤول الأول عن تفجيرات السويداء هو شخص عاش ومات قبل 700 سنة ولكني لا أستطيع ذكر اسمه حتى مجرد ذكر. وذلك لأن أتباعه وجحافله يعدون بالملايين في البيئات المحافظة جداً والحاضنة. وهم الذين يشعلون المشرق العربي حالياً ويجعلون التعايش الأخوي بين مختلف مكونات الشعب جحيماً لا يطاق. وكل سنة تخرج الجامعات والمدارس الظلامية الآلاف المؤلفة منهم. هنا يكمن المشكل الحقيقي والداء العضال. والعالم كله أصبح يعرف ذلك. فكتبهم الصفراء أصبحت تُدرس في كل الجامعات ومراكز البحوث العالمية لمعرفة من أين جاء كل هذا الوباء. وهنا يكمن الحز الفاصل بين إسلام التنوير والتقدم من جهة/ وإسلام التكفير والظلام من جهة أخرى. ولكن الشيء المؤسف هو أن التيار الثاني هو الذي انتصر مؤخراً على تيار الشيخ الكبير المستنير محمود شلتوت.
- التقيد بالعدل والإحسان
ما هي الفكرة الأساسية لدى سبينوزا؟ أنه يقول لنا ما يلي: التدين الحقيقي ليس تأدية الفرائض والشرائع اليهودية والمسيحية. هذه مجرد شكليات. وأنما التدين الحقيقي هو فعل الخير والتقيد بالعدل والإحسان. كل من يفعل ذلك ويشفق على المسكين والفقير وابن السبيل فهو مؤمن عظيم الإيمان. كل شخص مستقيم في سلوكه وحياته اليومية فهو مؤمن حقيقي. كل شخص يخدم المجتمع والمصلحة العامة فهو من أفضل البشر حتى ولو لم يضع قدمه في الكنيسة مرة واحدة.. بمعنى آخر فالدين هو المعاملة الحسنة. نقطة على السطر. ثم يقول لنا أيضاً: علية القوم يتوصلون إلى الحقيقة عن طريق أنوار العقل فقط وليسوا بحاجة إلى شيء آخر. الفلسفة تكفيهم. ولكن عامة الشعب لا تستطيع التوصل إلى ذلك إلا عن طريق الدين ورجال الدين. وهذا شيء مفهوم ولا غبار عليه بشرط أن نختصر الدين بمبدأ واحد فقط هو: فعل الخير وممارسة العدل والإحسان والابتعاد عن التعصب وكره الآخرين بقدر الإمكان.”