بقلم: يونس التايب 

 منذ سنة 2011، يأتي يوم 20 فبراير من كل عام وتعود معه خطابات الحنين وتذكر سياقات ماكان في ذلك اليوم و ما أتى بعده. والأمر إذا كان طبيعيا بالنسبة لمن كانوا في الميدان وعاشوا مباشرة أجواء تلك الأيام، ولهم حق الزهو بها كشكل نضالي مشروع، إلا أن المطلوب هو أن نتجاوز حديث الذكريات والنوستالجيا، و نمتلك شجاعة الاعتراف بما أخفقنا فيه حقا، و نتوقف عن اجترار بعض “أحلام اليقظة” و عن رمي المسؤولية في اتجاهات متعددة بعيدا عن ذواتنا، و استدامة التحاليل بشأن ما كان ممكنا لو حدث ما لم يحدث، ولو انخرط من لم ينخرط، و لو هب من أخلف الموعد، و لو قام حينها من لم يقم.

في رأيي أن الخلاصة العملية الأهم و النتيجة الأبرز لديناميكية 20 فبراير هي أنها خلقت شروط صياغة دستور 2011، بعد تفاعل الملك بإيجابية و بسرعة مع ما برز من مطالب شعبية عبر عنها الشباب. ثم بعد ذلك نظمنا انتخابات تشريعية ديمقراطية لم تعرف اختلالات كبرى، أعطتنا فاعلا حزبيا دخل للحكومة لأول مرة ليحتل المشهد بقوة وعوده الانتخابية وبحمولة خطاب سياسي و تواصلي مختلف في الشكل والمضمون، وبنخبة سياسية لم يكن كل المغاربة على بينة من سابق حضورها و كامل وعي بحقيقة وزنها في الساحة. 

جزء كبير من الرأي العام الوطني كان يأمل لو أن الطبقة السياسية تعاملت مع تلك “النتيجة/الدستور” على أنها مكتسب وطني تاريخي يمكن أن يشكل نقطة انطلاق يأتي في أعقابها، بشكل تصاعدي، تكريس لما حمله الدستور الجديد من تعزيز للممارسة الديمقراطية، و حضور المواطنين في قلب تدبير و تتبع وتقييم السياسات العمومية و الشأن العام، و دعم الديمقراطية التمثيلية وتوسيع دائرة تكاملها مع آليات الديمقراطية التشاركية، وتطوير الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية و البيئية، وتوسيع الحريات العامة والفردية في حدود قانون يتطور و يتلاءم مع مستجدات حركية المجتمع، وتنمية هوية الأمة المغربية بكل روافدها، و ترسيم اللغات الوطنية وإعلاء شأنها، وتحقيق الإدماج لكل المواطنين في إطار دولة وطنية قوية، اجتماعية و حريصة على تطبيق القانون ورعاية الصالح العام، وترسيخ الحكامة الجيدة عبر سلسلة من المؤسسات و الهيئات المستقلة و المتخصصة التي أحدثت لهذا الغرض.

فهل فعلا نجحنا، خلال التسع سنوات الماضية، في تحقيق ما كان مأمولا؟ غالبية الفاعلين متفقون على أننا لم ننجح، أو لم ننجح بالقدر الذي كان ممكنا و متاحا، كي لا أقول أننا فشلنا بشكل كبير. و لكل قراءاته بشأن الأسباب والحيثيات التي أثرت في الوضع وجعلت الأمور تسير كما سارت عليه وليس بشكل مغاير. 

شخصيا، أعتبر أننا كمواطنين وكفاعلين سياسيين وحزبيين وكمجتمع مدني، وجدنا أنفسنا أمام إطار دستوري جديد منحنا مساحات واسعة للحركة و المساهمة، فارتبكنا واختلطت علينا أمور كثيرة. من جهة، كان لظهور فاعل حزبي وحكومي جديد، يشتغل بأساليب غير معهودة في الحقل الحزبي الوطني، أثره في خلخلة طريقة عمل باقي الفاعلين الحزبيين الذين لم يتفاعلوا سياسيا بصورة جدية، سواء من منطق المساندة للحكومة أو من موقع المعارضة، و لم يرقوا إلى ما تقتضيه مسؤولياتهم و لم يتقنوا لعب أدوارهم جيدا. 

أما الفاعل الحزبي والحكومي المهيمن، فعوض أن يأخذ وقته لينصهر في الواقع الموجود بذكاء و هدوء، و يبني جسور الثقة ويبث روح الاطمئنان، ثم يعمل بعد ذلك بشكل عادي إلى جانب باقي الفرقاء، غرق هو الآخر في ارتباك من نوع ثان أشبه بذلك الذي كان يحلم بسياقة سيارة فارهة و لما استطاع شرائها، عجز عن فهم هندستها و طبيعة اشتغالها، و لم يرض أن يقر بذلك و يلتمس من يعينه على رفع قدراته ومهاراته تدريجيا. بل زايد على المحيط من حوله و أكثر من الشك والتشكيك، وسقط بسرعة في حسابات المواقع و المنافع للأتباع وأصحاب ثقته، وأسهب في خطابات التوجس والتوهم، وأطنب في نسج قصص عن “غرف سوداء” فيها عفاريت تتآمر عليه، و أدخل لساحة التداول السياسي والإعلامي المغربي مصطلحات مستوردة تتفاعل مع الدولة ليس كما هي متعارف عليها قانونيا و دستوريا إنما يقابلها بمقياس “عمقها” المفترض و غير الظاهر، ونزل يتهم الجميع بالفساد ويهدد بنشر لوائح الريع، حتى صرنا نشك في أنفسنا وفي الجميع ونبحث عن جزء لا زال صالحا في مجتمعنا وفي واقعنا لنتبرك به. 

والمصيبة أنه لا هم حاربوا الفساد و أوقفوا الريع، ولا هم تركوا البلية مستترة، و لا هم حددوا هويات “المفسدين” وقلصوا مساحات تحركهم، ولم تزد الأمور إلا تراجعا بفعل سياسة “عفا الله عما سلف” التي شجعت شيوع خطاب يسفه قيم النزاهة و ينال من رمزية كل ما في هذا الوطن من مؤسسات و مكتسبات وتراكمات. 

ولست هنا بصدد تحميل المسؤولية لطرف بعينه و لوحده. المسؤولية مشتركة بالتأكيد، و لكل نصيبه فيها، لأننا جميعا أصابنا نوع مما يصيب المتذبذبين و المبتدئين. وعلينا أن لا نخجل من الإقرار بأن الأمور اختلطت على كثير منا و لم نستوعب عمق التحول في البنية الدستورية، و في الحقل السياسي الحزبي، و في توجهات الرأي العام و تحولات الثقافة المجتمعية. وعوض أن نتمسك بضرورة تنزيل سليم لكل بنود الدستور، ونتشبث بإخراج كل القوانين التنظيمية في وقتها، ونعود لبناء تنظيماتنا السياسية والنقابية والجمعوية بشكل ديمقراطي وعصري يتناسب و متطلبات المجتمع وانتظارات شبابه، ونفرز نخبة جديدة من الكفاءات تكون قادرة على إعادة الثقة للناس و إشراكهم في تدبير شؤونهم، ظل السلوك السياسي الحزبي أقل من مستوى ما  تتيحه مقتضيات دستور 2011، ولم يتحرك الفاعلون ضمن كامل المساحات التي منحت بتوافق تاريخي أطره خطاب 9 مارس 2011. 

وهكذا، تشتتت الجهود بين بعض من استمروا في المطالبة بإطار دستوري أكثر تقدما عما تم تحصيله، فلا استمتعوا بالمتاح و لا نجحوا في فرض شروط الانتقال إلى شيء آخر، فيما استمر البعض الآخر من فئات المجتمع و من سياسييه في عجز مبين عن تتبع عمل الحكومة بالصرامة و الاحترافية المطلوبة من خلال أداء برلماني يكون قويا وضاغطا. و لم تتوفق أغلب الأحزاب في رفع منسوب التأطير السياسي للمواطنين بشراكة مع نخب حقيقية و رصينة، بل وقع الجميع في فخ الشعبوية دون القدرة على وقف اكتساحها لكل الفضاءات، ولا التمكن من فضحها بأسلوب ينزع عنها كل مصداقية. 

وبذلك، كان أكثر ما ميز الحقل السياسي منذ 2011، هو إضاعة الجهد في السجال العقيم، والغوص الجماعي في مستنقع التوجس و التجاذب السياسوي والاستقطاب على أسس هوياتية عقيمة و مستفزة، لنصل في نهاية الأمر إلى نتيجة منطقية هي عزوف ارتفع و سيزيد، و سخط شعبي عاد بقوة من جديد، و خطابات عدمية تتناسل و كأن ليس على هذه الأرض شيء يستحق الاحترام و يضمن العيش المشترك الكريم في حدود متميزة عن كل دول الجوار القريب و البعيد. وبدون خوف من المبالغة، أجزم أن ما قرره، في انتخابات 2011 و 2016، سبعة ملايين ناخب من اختيارات قد غلب إرادة البلاد و العباد، و عطل حلم أربعة وثلاثين مليون مغربي بالسير إلى أفق يسوده التقدم و التنمية. 

رأيي أنه كان علينا جميعا أن نسعى إلى استثمار أفضل ما أتت به دينامية 20 فبراير، ألا و هو البناء الدستوري الجديد الذي كان لحظة فارقة و فتح باب تطوير حياتنا السياسية وتعزيز المسار الديمقراطي و الرقي به أكثر. لكننا لم نكن في الموعد و أضعنا زمنا سياسيا و تنمويا ثمينا، فلا نحن غيرنا التوازنات السياسية بين الأحزاب على الأرض، ولا نحن أعددنا العدة لنحقق شروط المشاركة السياسية القوية للمواطنين حتى نرفع حظوظ تحقيق التداول الديمقراطي المطلوب لننقد الأجيال القادمة من تبعات سياسات حكومية ضيقت على الناس في أقواتهم خلال الولاية الحكومية الأولى، وهي مستمرة في ذلك في ظل الولاية الثانية. 

فهل سنرفع التحدي كمواطنين وطنيين ويعود الفاعلون السياسيون لرشد المسؤولية التي عليهم؟ أم أننا سننتظر كل سنة عودة يوم 20 فبراير لنبكي على الأطلال و ننفخ في ذوات حالمة و مزهوة بإنجازات لم ترق إلى ما ينفع الناس والوطن، و نعيد في كل ذكرى نفس التحاليل بشأن “ما كان ممكنا لو حدث ما لم يحدث، ولو انخرط من لم ينخرط، و لو هب من أخلف الموعد، و لو قام حينها من لم يقم”، بينما الزمن يجري بنا و المحيط يتعقد من حولنا و تنافسية اقتصادنا الوطني تتآكل ونحن عن كل ذلك شاردون؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *