إن تمويل الاقتصاد الوطني يشكل عصب الحياة في مسار ضمان التقدم والازدهار، ونجاعته تعتبر العامل المحدد لنجاح الاستراتيجيات الاستثمارية والمبادرات المقاولاتية. وقد عملت بلادنا منذ الاستقلال على تقوية وتعزيز نظام التمويل الوطني، بداية من إحداث صندوق الايداع والتدبير بظهير 10 فبراير 1959 واحداث مجموعة أخرى من المؤسسات من قبيل صندوق التجهيز الجماعي وصندوق الادخار الوطني والبنك الوطني للتنمية الاقتصادية. 

وعمل المغرب على تشجيع القطاع البنكي وتقوية ترسانته القانونية واكبتها اصلاحات كبيرة ومتعددة مع التطور الطبيعي لنظامنا التمويلي، ابتداء ا من الظهير بمثابة قانون رقم 1-67-66 بتاريخ 21 أبريل 1967 المتعلق بالمهنة البنكية والائتمانية، الذي وضع تعريفا أكثر دقة للأبناك وحدد صلاحيات هيئات الرقابة. 

وتواصلت الاصلاحات بحذف مفهوم البنوك المتخصصة سنة 1993 ووضع القانون 15-95 المتعلق بمدونة التجارة والقانون 17-95 المتعلق بالشركات المجهولة الاسم، بالاضافة الى تحديث بورصة الدار البيضاء. كما قامت بلادنا بملاءمة قوانينها مع متطلبات لجنة بازل للرقابة المصرفية من خلال القانون 76-03 الخاص بالنظام الاساسي لبنك المغرب والقانون 34-03 الخاص بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، وبعد ذلك تم مراجعة هذا القانون سنة 2012 واعتماد مجموعة من المستجدات التي ساهمة في توسيع العرض البنكي الوطني.

وعلى الرغم من هذا المجهود التاريخي الكبير، يلاحظ أن النظام التمويلي الوطني لا زال يعاني من مجموعة من الاشكاليات البنيوية، لعل أبرزها تدهور رسملة البورصة الوطنية بحوالي 50 مليار درهم سنة 2018، وبروز محدودية النموذج الاقتصادي للقطاع البنكي الوطني بالإضافة الى استمرار تأخر بلادنا في اعتماد الجيل الجديد من أساليب التمويل، وهذا المعطى يؤكده كذلك مؤشر(doing business)  حول مناخ الأعمال العالمي  الذي يصنف بلادنا في المرتبة 119 عالميا فيما يتعلق بالولوج الى القروض.

وفي هذا الإطار، نذكر بمضمون خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية العاشرة، حيث أكد جلالته أن القطاع “لايزال يعطي أحيانا، انطباعا سلبيا، لعدد من الفئات، وكأنه يبحث فقط عن الربح السريع والمضمون. 

وهو ما يتجلى مثلا، في صعوبة ولوج المقاولين الشباب للقروض، وضعف مواكبة الخريجين، وإنشاء المقاولات الصغرى والمتوسطة.” وفي نفس السياق حث جلالته: ” القطاع البنكي الوطني على المزيد من الالتزام، والانخراط الإيجابي في دينامية التنمية، التي تعيشها بلادنا، لاسيما تمويل الاستثمار، ودعم الأنشطة المنتجة والمدرة للشغل والدخل. وفي هذا الإطار، ندعو الأبناك، إضافة إلى الدعم والتمويل الذي توفره للمقاولات الكبرى، لتعزيز دورها التنموي، وخاصة من خلال تبسيط وتسهيل عملية الولوج للقروض، والانفتاح أكثر على أصحاب المقاولات الذاتية، وتمويل الشركات الصغرى والمتوسطة”.

وتعتبر هذه الدعوة الملكية، بمثابة توصية للقطاع البنكي من أجل تغيير النموذج الاقتصادي الخاص بعمل الابناك الوطنية، خاصة وأن جلالة الملك ركز على مجموعة من النقط المتعلقة بتعزيز المردودية الاقتصادية وتشجيع المبادرات الذاتية، ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة، العاملة في مجال التصدير، وخاصة نحو إفريقيا، والاستفادة من القيمة المضافة، للاقتصاد الوطني، بجانب تمكين أكبر عدد من الشباب المؤهل، حاملي المشاريع، المنتمين لمختلف الفئات الاجتماعية، من الحصول على قروض بنكية، لإطلاق مشاريعهم، وتقديم الدعم لهم، لضمان أكبر نسبة من النجاح؛ مع العمل على تسهيل ولوج عموم المواطنين للخدمات البنكية، والاستفادة من فرص الاندماج المهني والاقتصادي، خاصة بالنسبة للعاملين في القطاع غير المنظم.

وتشكل هذه التوجهات التزاما ملكيا ساميا، وهو ما تبلور فعليا بترؤس صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوم الاثنين الماضي، لحفل تقديم “البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات” وتوقيع الاتفاقيات المتعلقة به. هذا البرنامج الذي يتضمن ثلاثة محاور أساسية هي التمويل المقاولاتي، وتنسيق عمليات الدعم والمواكبة المقاولاتية على مستوى الجهات، والإدماج المالي للساكنة القروية. وفي هذا الصدد، تم بموجب قانون المالية لسنة 2020، إنشاء حساب مرصد لأمور خصوصية يسمى “صندوق دعم تمويل المبادرة المقاولاتية”، بمبلغ 6 ملايير درهم، سيعمل على دعم الخريجين الشباب حاملي المشاريع والمقاولات الصغيرة والمتوسطة، وتمكينهم من الولوج للتمويل، وكذا دعم المقاولات العاملة في مجال التصدير، وتمكين العاملين في القطاع غير المنظم من الاندماج المهني والاقتصادي.

إن اصلاح منظومة تمويل الاقتصاد الوطني، يعتبر عاملا محددا لنجاح أجندة التحول التنموي، التي انخرطت فيها بلادنا عبر ورش تجديد النموذج التنموي. وبلادنا مدعوة لإصلاح عميق للقطاع البنكي، بانسجام مع التغيرات التقنية التي يعرفها القطاع على المستوى العالمي وتماشيا مع الدعوة الملكية لتقوية مساهمة القطاع البنكي في الدينامية الاقتصادية الوطنية. وهنا ينبغي العمل على إعادة النظر في الإطار القانوني الأبناك ومؤسسات الائتمان والرقي به لمرتبة “مدونة بنكية ومالية”، بجانب العمل على الارتقاء بالعلاقة بين المستثمرين والأبناك من علاقة تجارية بسيطة الى شراكة عميقة، تمكن الابناك من المصاحبة التقنية والمالية للاستثمارات، وكذلك تعزيز العرض البنكي الوطني لضمان استمرارية الدينامية الاستهلاكية من خلال خدمات الابناك الخلوية واتاحة امكانية الدفع المتفرق(paiement différé)  عبر البطاقات البنكية وتمكين المواطنات والمواطنين من البطاقات الائتمانية(Carte de crédit)  عوض الاكتفاء بالبطاقات البنكية للدفع(Carte de débit) . 

كما ندعو لخلق منصات خاصة بتمويل وتتبع مشاريع الشباب والمقاولين الذاتيين مع تقوية مكانة الأعمال المصرفية الالكترونية من قبيل  PayPal والتأسيس لمرحلة العملات الرقمية المشفرة Crypto-currency ببلدنا، بالنظر لكونها مصدرا كبيرا للدخل بالنسبة لشريحة عريضة من الشباب المغربي التي تنشط في ميدان التشغيل الذاتي Freelance. هذا بالإضافة الى تسريع مسار اعادة النظر في منظومة الضمانات وتدبير المخاطر، وذلك انسجاما مع مضامين القانون رقم 21.18 المتعلق بالضمانات المنقولة، الذي يهدف الى تسهيل ولوج المقاولات إلى مختلف مصادر التمويل المتاحة، عبر تقديم الضمانات المنقولة المتوفرة لديها؛ وتعزيز الحرية التعاقدية في مجال الضمانات المنقولة مع الحرص على تحقيق الأمن القانوني التعاقدي؛ وتحسين شروط تنافسية المقاولات عبر تأمين عمليات تمويل الاستثمار.

وهذه الإصلاحات من شأنها الارتقاء بهندسة الناتج البنكي الخام(Produit Net Bancaire)، الذي تنبني 80% من موارده على خدمات الوساطة المتعلقة بالقروض، وهو ما يدفعنا للتفكير في بدائل جديدة لعل أبرزها تقوية سوق رؤوس الأموال، التي ينبغي العمل على اصلاحها وتوسيع طبقة المستفيدين من خدماتها. وفي هذا الإطار، فإننا ندعو لضرورة تسريع مسار انشاء سوق خاصة بالمقاولات المتوسطة والصغرى(PME)  ببورصة الدار البيضاء، مع العمل على تحفيز هذه المقاولات على الانخراط فيها عبر تحفيزات مرتبطة بالمصاحبة التقنية وتحفيزات ذات طابع جبائي. كما ندعو في نفس السياق الى العمل على وضع اطار قانوني يستوعب الجيل الجديد من المنتوجات المالية كسندات المقاولات  (Corporate bonds)والمنتوجات المالية الفريدة(Produits exotiques)  والمشتقات المالية(Produits dérivés) . ونوصي في نفس الاطار، بضرورة التفكير في اتاحة امكانية تمويل الجماعات الترابية عبر السندات(les obligations)  بغية تنويع أساليب تمويلها وتوسيع عرض السوق الوطني لرؤوس الأموال.

إن الابتكار المالي سيكون كلمة السر في مسار إصلاح منظومة تمويل اقتصادنا الوطني، خاصة وأن حالة الإشباع الاستراتيجي للاقتصاد الوطني تستلزم أجوبة براغماتية من أجل تحقيق الاقلاع الشامل، والمضي قدما في مشروعنا الجماعي للالتحاق بركب الدول الصاعدة. 

ولا تفوتني الفرصة كذلك للدعوة الى تقوية الصندوق السيادي الوطني انسجاما مع مبادئ سانتياغو، ليكون قادرا على المساهمة الفعالة في الدينامية الاقتصادية الداخلية، وأن يكون بمثابة دراع مالي للدبلوماسية الاقتصادية الوطنية، في ظل توجه بلادنا لتقوية حضورها الاقتصادي بالقارة الافريقية من جهة، وكذلك للاستعداد الجيد للنجاح في الالتزام المتعلق بالمنطقة الحرة الافريقية(ZLECA)  من جهة أخرى.

*حكيم بنشماش رئيس مجلس المستشارين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *