يوسف يعكوبي
هل القطار المَكوكي رقم 9، الذي كان رابطاً بين مدينتيْن في المغرب، صباح الثلاثاء (16 أكتوبر 2018) والذي أودى بحياة 7 أشخاص على الأقل وجرح أكثر من 120 آخرين (حسب أرقام رسمية) هو وحدَهُ المُنْزاحُ عن سِكّته والمنحرفُ عن مساره المرسوم له لكنه مسارٌ غَيْرُ مَصُونٍ بالعناية اللازمة؛ أم أن البلاد كلها انزاحتْ وزاغتْ وانحرفت عن سبيل التنمية المنشودة وضلّتْ طريقها في صحاري التهميش والجهل ومهاوي الخدمات الرّديئة ومؤخرات تصنيفات التقارير الدولية؟
السؤال أعلاه طُرِح في ذهني أكثر من مرة متبادِرًا إلى طرق رأسي، مع كل خبر كان يتدفق عن تطورات وتداعيات الحادثة المفجعة.. رأيتُ فيه سؤالاً مشروعاً، جديرا بالطرح، عن أحوال دولةٍ تواترت فيها بقوة، خلال الآونة الأخيرة، أخبارٌ لا تسرُّ صديقاً ولا تغيظُ عدواً.. دولةٌ ستُسجَّل بمدادٍ من أسى وحسرة في سجلّ مآسي التاريخ الحديث؛ والسبب هو أنه قد صار لها يوم “ثلاثاء أسود”، على غرار الثلاثاء الأسود الشهير الذي لم يغادر، إلى اليوم، الذاكرة الجَمْعِيّة للشعب الأمريكي.
تساؤل مُلح وحيوي لا يقل أهمية عن التساؤل الأول، وجدتُني أطرحه على نفسي في ذهول. يتعلق الأمر بحيوية التواصل وقيمته وجدواه في مثل هذه المناسبات الأليمة.. بعد وقوع الحادث، الذي جعل أبرز المسؤولين الحكوميين وغيرهم يهرعون إلى مكان وقوعه، عاش الرأي العام المغربي على وقع تضارب شديد في الروايات والأنباء، لم يكن سببه سوى انعدام للتواصل، كان المفترض في مكتب السكك الحديدية ومسؤوليه أن يقوم بواجبه في هذا الصدد، لكنهم فضّلوا إغلاق هواتفهم في وجه الصحافة الوطنية، مكتفين بزيارة ميدانية للمدير العام للمكتب إلى مكان انحراف القطار.
الأدهى من كل ذلك أن بلاغات نُشرت وعُمّمت عبر قنوات التواصل الاجتماعي التابعة لمكتب السكك تحمل عبارات مواساة وتعزية لذوي الضحايا، تأخرتْ إلى حدود المساء من اليوم الذي وقعت فيه الفاجعة صباحاً؛ تأخرٌ في التفاعل مع حادثة سككية ترقى لوصف “فاجعة” يشبه إلى حد كبير تأخرات “قطارات لْخْليع” (كما يناديها المغاربة) إذ أصبحت طقساً يوميا طبّع معه معظم مستعملي تلك القطارات.
بينما تحدّث البعض عن “سَبْق مبين” حققته الحكومة الإسبانية حين سارعت إلى نشر بلاغ تضامني، بثلاث لغات، مع عائلات ضحايا حادث انحراف قطار في المغرب، معبّرة عن أسَفها لوقوعه، وكأنّ الأمر يتعلق بقطار إسباني فوق سكة تخترق التراب الإسباني يستقلّه مسافرون إسبان!.. فيما اكتفى رئيس الحكومة المغربية، سعيد العثماني، بتغريدة “على استحياء” نشرَها حسابُه الرسمي في “تويتر”، قدّم فيها عزاءه إلى عائلات المتوفّين راجيا من الله الشفاء العاجل لباقي الجرحى والمصابين.
لا شك في أن المؤشرات أعلاه، مجتمِعة، تقود إلى يقين واضح صعبِ الإنكار؛ وهو أن التواصل خلال فترات الأزمات، باعتباره قيمة ثمينة في عالم اليوم، يعيش أيضا على وقع أزمة مزمنة، ليس حادث “قطار الموت” ببوقنادل أولى تجلياتها. فالعديد من الأزمات والمشاكل التي مرّت على المغرب، يغلبُ عليها إما طابع “سياسة الأذُن الصمّاء”، أو قلة التواصل وانعدامه، وأحياناً تُقابَل بعض الأحداث التي يهتز لها الرأي العام المحلي كما العالمي بلا مبالاةٍ قاتلة كأن شيئا لم يحدُث! وعلى ما يبدو، وفي نظَر مكتب السكك الحديدية بالمغرب فإن من ذهبوا ضحية حوادثه العديدة “زبناءٌ كِرام”، لكنهم بعد الفواجع يبقوْن أُناسًا “عاديين” منزوعي الكرامة.
ختامًا، قد ينفع التذكير (أو قد لا ينفع) وقد يكون من نافل القول إنّ دولةً “مِجهرية جُغرافيًا” كاليابان لكنها تضع كرامة مواطنيها فوق كل اعتبار، تحتسبُ تأخراتِ قطاراتها المتفوّقة على جميع الأصعدة، بالثواني، بينما تُحتسب تأخرات قطارات المغرب بالسّاعات.. ولله في خلقه شؤون! رحمَ الله ضحايا القطار رقم 9 وتقبّلهُم عنده في الشهداء ومع الصالحين.. وعجَّل بشفاء الجرحى والمعطوبين.. وعزاؤنا واحدٌ في “وطنٍ برُتبة قاتل”.