حسين عصيد

“إنني أقدم عبر شخصكم الكريم، جزيل الشكر للشعب المغربي الباسل، إثر عزيمتكم القوية ومساعدتكم لنا. فلولاكم، يا صاحب الجلالة، ولولا جيشكم الشجاع، لما حُرّرت بلدنا من النازية والفاشية”… كانت هذه العبارة التاريخية التي نطق بها الزعيم الفرنسي شارل ديغول، وهو يوشح صدر السلطان المغربي محمد الخامس بوسام “رفيق التحرير” في ساحة الإليزي يوم 20 يونيو 1945. كلمة امتنان في حق ملك وفي حق شعب أرسل أبناءه ليلبوا نداء الواجب في حرب عالمية كانت قد أتت على الأخضر واليابس في أوربا. فلا يمكن الحديث عن تاريخ التحرر الفرنسي من براثن الحكم النازي ولا عن أهوال المعارك الرهيبة التي قادها الجنود الفرنسيون ضد جحافل الجنود الألمان دون استحضار وجوه 90 ألف مغربي حملوا السلاح وقاتلوا، ببسالة، في أوربا من أجل إسقاط الدكتاتورية. فبإرادة ملك وبسالة شعب أسهم المغاربة في قلب تاريخ العالم في أروع الملاحم التي شهدها التاريخ الحديث.

حرب على الأبواب

رغم وجود المغرب تحت وطأة الحماية الفرنسية والاستعمار الإسباني، في الوقت التي اندلعت الحرب العالمية الثانية في أوربا، فقد آثر مساندة الحلفاء. قرارٌ كان له بالغ الأثر في ما تلا ذلك من أحداث. وتمثلت مشاركة المغرب في الحرب في جعله قاعدة إستراتيجة مهمة لانطلاق العمليات العسكرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لصد الجيوش الألمانية والإيطالية عن غزو كل من شمال إفريقيا وغرب أوربا، خاصة فرنسا وإنجلترا. وفي هذا الإطار تم، في 4 شتنبر 1939، بموجب مرسوم سلطاني، حثّ المغاربة على مساندة فرنسا في سعيها نحو الحرية. وتم ذلك عبر منابر المساجد وفي الأسواق الأسبوعية. ومن جملة ما جاء فيه “علينا أن نقدم لفرنسا الإعانة التامة ونعضدها بكل ما لدينا من وسائل، غير محاسبين ولا باخلين. وقد صار ضرورة أن نشاركها اليوم في ساعة الشدة والبؤس، حتى يكلل النصر أعمالها و يزهر سرور النجاح أيامها”.

عقب النداء الملكي، تم تجميع الشباب المغاربة في القرى والمداشر، وقد أفادت بعض الوثائق الفرنسية بأن 60 % منهم كانوا من الأمازيغ وأن بعضهم كانوا دون سن السادسة عشرة، لكن الضباط الفرنسيين ألحقوا أسمائهم باللوائح بعد تغيير أعمارهم”.

تم إخضاع المختارين منهم لتدريبات وفحوص دقيقة قصد اختيار النخبة منهم، ليدرَّبوا على مدى شهور قليلة، قبل أن يتم ترحيلهم، عبر موانئ الجزائر وتونس، إلى أراضي القتال.

كانت تركيبة الفيالق المغربية والمسماة “الكوم” تتكون من 3 آلاف محارب في كل سرية، يقودها 200 ضابط فرنسي من رتب مختلفة، وبعض المغاربة من رتب متدنية. وكانت هذه الفيالق مجتمعة جاهزة للحرب في يونيو 1943 تحت زعامة الجنيرال غيوم.

فيالق الموت

كانت أولى الملاحم التي خطها “الكوم” المغاربة بمداد الفخر في يناير 1944، بالهجوم على معاقل قوات المحور المتمركزة في مرتفعات “مونت كاسينو”، ما بين مدينتي روما ونابولي الإيطاليتين. فبعد الإجهاز على “خط غوستاف” الدفاعي للنازيين والفاشيين، تعقبوا الجنود الفارين إلى أعالي الجبال.  وكتب النقيب الألماني يوليوس شليكل في مذكراته “أعجب لهؤلاء الجنود المغاربة، المُرتدين لبزات فرنسية والحاملين لأسلحة أمريكية.. خليط من الرعب يسير على قدمين!”..

في فرنسا كانوا في كتيبة من 10 آلاف محارب حين حرروا جزيرة “كورسيكا” في انتصارات باهرة. ليعبُروا البحر المتوسط إلى مارسيليا، التي حرروها في صيف 1944. ثم تسلقوا جبال الألب ليخوضوا معارك صغيرة هناك، ليتجهوا بعد ذلك لتطهير منطقة “فوسغيس”، شمال شرق فرنسا، غير بعيد عن الحدود مع ألمانيا، في رحلة دامت شهورا سقطت خلالها أعداد كثيرة منهم.

على الحدود الألمانية، وعلى أعتاب غابات “غاجينو” -في حدودها مع نهر”الراين”- شكلوا درعا دفاعيا شل كل الهجومات الألمانية على مر الشهور التالية. وعن تلك المعارك كتب المؤرخ الألماني فريتز فيشر “اشتبك المغاربة مع جنودنا الألمان أياما، ظنناهم فيالقَ عدة، تأتيها التعزيزات العسكرية مرة بعد أخرى، لكننا اكتشفنا أنهم فيلق واحد، لا ينام ولا يرتاح!”..

في 2013، وفي مدينة “أجاكسيو”، كبرى مدن جزيرة “كورسيكا”، وقف 7 من آخر جنود “الكوم” المغاربة أمام قبر الجندي المجهول. على صدورهم عُلقت ميداليات ونياشين، وعلى نغمات العلمين المغربي والفرنسي، قرأ الوزير الفرنسي المكلف بقدماء المحاربين قادر عريف رسالة الرئيس الفرنسي قائلا “لقد تم توشيحكم بهذه الأوسمة عرفانا منا بما بذلتم من تفان وتضحية في سبيل تحرير هذا البلد من بطش النازية. تحت هذه الأرض يرقد المئات من زملائكم، الذين روت دماؤهم كل نبتة مورقة أينعت في فرنسا.. بوركتم أيها الشجعان.. وبورك وطنكم، المغرب”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *