حسين عصيد

 

رغم بذل حثيثِ الجهود لوقف نزيف الدم في ملاعب الكرة المغربية، يستعرّ الجنون مع كل مباراة كرة قدم، ليسقط الضحايا صرعى كراهية لا مبرر لها، أرّقت مضاجع القائمين على أجهزة الأمن بالبلاد، كما رفضت مطاوعة تحاليل الأخصائيين النفسيين، الذي حاولوا جميعاً إيجاد حلول ناجعة لوقف هذا العبث الجهنمي، الذي كُلما آنسوا منه هموداً أحياناً، إلا ويعود في أحايين أخرى لحصد الأرواح.

فما هو شغب الملاعب؟ وكيف يُفسره علم النفس السلوكي؟ وهل ثمة حلول جذرية لاستئصال هذه الظاهرة بالمغرب؟

ظاهرة

تفيضُ حشود من الجماهير على مدرجات الملعب، تتهادى وسط الصياح واللغط كقطيع هارب، حتى إذا وقفت في وجه خصومها، سرعان ما يلتحمان في عراك أشبهُ ما يكون بمعارك العصور الوسطى، فلا ترى من هذا الفيض البشري الغاضب سوى صوراً خاطفة لعصيّ، قوارير ولكمات متطايرة، تُمعن في الفتك والإيذاء، في صُور صادمة وحزينة، ألفنا مشاهدتها كل مرة في مبارياتنا الرياضية، ليسيل تحت الأقدام دمٌ.. وما تبقى من روح رياضية، لدى جمهور حوّل الفرجة إلى مأتم للشياطين.

فـ”الهوليغانيسم” أو ما بات يُصطلح عليه بـ ” شغب الملاعب”، قد أضحى ظاهرة فريدة جديرة بالدراسة، تتحدى المنطق السوي، لتهيم في مستويات لا محدودة من الفوضى والنرجسية البشرية، فقد أمعن فيها المحللون الغربيون بحثاً وفحصاً منذُ عُقود، غير أن جنوح مجتمعاتهم إلى السلم بعد الحربين العالميتين، واستشراء نُظم تعليمية جديدة تُعنى بتهذيب المواطنين قبل تعليمهم، أدى على انحصار هذه الظاهرة لديهم في كل المجالات، لا في الملاعب الرياضية فحسب، بل في الوقفات الإحتجاجية  أيضاً، وغيرها من المواقف حيثُ تجتمع الحشود لفرض رأي ما على حكوماتها.

غوغاء

قبل أن تتمدن المجتمعات الغربية تماماً، فرضت ظاهرة “الهوليغانيزم” نفسها بشكل لافت، بل وطبعت حقبة واسعة من تاريخها، حيثُ لازمت القلاقل السياسية، وجُملة المتغيرات الإجتماعية التي لازمت شُعوبها، مما أدى إلى مواجهات دامية بين فُرقاء في الأفكار والإديولوجيات، ارتُكبت على إثرها اغتيالات وأعمال قتل شنيعة، راح ضحيتها أفراد من كل الأطراف. أول من تعرض للظاهرة كان الإيطالي ” Scipio Sighele”، حيثُ نشر مجموعة أفكار بخصوصها في حزمة مقالات أسماها “آراء في الجماهير المُجرمة”، حيثُ عمد بادئ ذي بدء إلى تشريح المجتمع، تمخض عنهُ تقسيم المجتمع إلى فئات، كانت أعلاها فئة النخبة والطغمة الإقتصادية، فيما أتت فئة “الغوغاء” في ذيل اللائحة، والتي كلما احتشدت، إلا وانفلتت اعصابها دونما سبب ظاهر، حيثُ يقول :” هذه الأعمال المتطرفة التي يقوم بها الغوغاء، ماهي إلا ضربٌ من الجنون، الذي يكشف عن الجانب السري والمظلم من الطبيعة البشرية”، ثم أردف :”هم محرومون أو فُقراء غالباً، تعليمُهم بسيط، حتى إذا اجتمع قطيع منهم ..وتقووا، هاموا في الأرض ليعيثوا فيها فساداً !”.

أما المؤرخ الفرنسي”Gustave Le Bon”، مؤلف كتاب “سيكولوجيا الجماهير”، فقسم “الجماهير العنيفة” إلى قسمين حيثُ قال:”.. القسم الأول من الجماهير العنيفة تخضعُ روحهُ لتحريضات وإيعازات أحد المُحركين أو القادة، الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها، هذا الزعيم يُمكن بفطنته أن يقود هذه الجماهير إلى الإيمان باللون الأبيض على أنهُ أسود .. أما القسم الثاني من الجماهير العنيفة  فلا مُحرض لهُ، إذ تتحرك بفطرة الحيوان، وتهيج دونما سبب واضح، حتى إذا صادفت أمامها رموزاً قد تُمثل السلطة أو القوانين بشكل عام، فإنها تزدادُ هياجاً .. فالفردُ عموماً يتحرك بشكل واع ومقصود، أما الجماهير العنيفة فلا تتحرك أبداً بشكل واع”.

عنفٌ تُجاه الدولة

إن شغب الملاعب ظاهرة بنيوية، تتحدى في كينونتها العنف الذي تُنتجه، ويُعد الإحباط والوعي الاجتماعيين عاملان أساسيان في هذه المعادلة، فالإحباط الذي يتلبّس شريحة واسعة من الشباب المغربي يؤذي في أغلب الحالات إلى العنف ويعزز من حدوثه،  كما أن التعلم والظروف البيئية الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بالفرد لها دور مهم وحاسم في حدوث السلوك العدواني من عدمه، وكمبرر لذوي النفوس الضيقة والضعيفة للانتقام من الدولة بشتى الأساليب، وإخراج المكبوتات الاجرامية للتعبير عن السخط الشعبي المدفون داخلهم، ليُصبح هذا العنف بمثابة رد فعل عن سوء التدبير السياسي والغلاء المعيشي والبطالة، واختلال منظومة التعليم والصحة والطبقية. فالنتائج السلبية للفرق والأندية ليست أبداً المبرر الرئيس لسلك جمهورها مسلكاً مفروشاً بالدماء والجثث، فالجمهور الرياضي حين يدمر ويكسرويتفوه بعبارات نابية مسيئة للاعبين والمسيرين والأندية والحكام، لا يبث بذلك رسالة إلى هؤلاء بالذات، بقدر ما يُرسلها إلى قوة أكبر وأعلى، وهي الدولة، وكون الدولة في حد ذاتها ليست شيئاً مادياً موصوفاً يُمكن المساس به، فإن مبانيها ومنشآتها هي جزء منها، لذا يُصبح من مسؤولية المشجع الغاضب أن ينال من هذه الموجودات المادية، وفي طريقه لفعل ذلك، لا بأس به إن نال من خصومه من مشجعي الفريق الآخر، رغم أنهم ليسوا أبداً عدوه المباشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *