سناء عادل*

قد يعتقد المتفرّج لوهلة أنّ الفيلم “Joker” يستمدّ قوّته كعمل فنّي مبهر من عنصر تداخلِ الحقيقيّ بالمتخيَّل، لكن عدم تبرير التهيّؤات التي أصابت آرثر فليك على مدى الفيلم والتّعتيم الذي صاحب تفصيل مرضه العقليّ، سيضعان هذا العنصر في مرتبة ثانية. قوّة الفيلم تكمن في اتّخاذه من شخص مهمّش ومستضعَف وهزيل البنية ومثالٍ للكومبارس في الواقع، بطلاً سينمائيا جامحا ومؤثّرا. 

عندما قام “جوكر”، في واحد من أقوى مشاهد الفيلم أداءً، بخنق أمّه حتّى الموت وهي في أشدّ لحظاتها ضعفا على سرير المرض، لم يكن مدفوعا بالشرّ إطلاقا، بل كان دافعه الوحيد هو الانتقام المشروع. تأويلٌ صادم يضعنا أمامه الفيلم، لكنْ متى كانت الحقيقة ليّنة؟ قلت كان انتقاما مشروعا لأنّه -وهو يقتل- لا شك في أنّه تمثّل الطّفلَ آرثر، مسلوب القوى والإرادة الّذي كانه عندما تبنّته هذه المرأة وشهدت على تعذيبه دون أن تدافع عنه؛ وعلاوة على ذلك استمرّت في شحن رأسه بأكاذيب صعّدت شعوره بالمذلّة والمهانة طوال حياته، بدءا من إصرارها المستفزّ على مناداته باسم “Happy” في حين أنّه لم يشعر أبدا أنّه سعيد.. نعرف هذا عندما يخاطبها، لحظاتٍ قبل خنقها، بملامح محايدة جدا لا يمكنها إلا أن تزعزع المشاهد: “لم أكن سعيداً ولو دقيقة طوال حياتي اللّعينة”، وانتهاءً بإخفائها عنه حقيقة تبنّيها له. 

لم تكن هذه التّجربة الأولى لـ”جوكر” في القتل، ومن ثَمّ شعوره باللّامبالاة، بل وحتّى بالارتياح. ما يجعلنا نستحضر فكرة ألبير كامو القائلة إن “العادة قوّة كبيرة تبدأ من الجريمة الثّانية”(*)، إذ نرى البطل -الذي بلا بطولة تُذكر- هادئا يغمره الرّضا، حتّى أنّه اعترف لزملائه بأنه صار أفضل بعد موت أمّه واستغنى عن أخذ الأدوية. عكس الشّعور الأوّل الذي أعقب إطلاقه النّار على الأشخاص الثّلاثة الذين تنمّروا عليه وضربوه في قطار الأنفاق، إذ شرع يركض بجنون، هاربا من شعور الإجرام أكثر من هروبه من مسرح الجريمة. 

سيتجلّى، للمرّة الثالثة ترسّخُ قوّة العادة في نفس “جوكر” وهو يخبّيء في جيبه مقصّا حادّا بنيّة طعن زميله الذي غدر به. ثمّ تعابير الارتياح والانشراح الّتي ارتسمت على وجهه الكئيب مباشرة بعد القتل، دون أن نغفل اللّقطة غير المجّانية التي يسمح فيها للزّميل الآخر بالمغادرة وهو يقبّل رأسه بهدوء ويطمئنه بأنه لن يؤذيه لأنّه كان طيّبا معه دائما؛ “جوكر” ينتقم ولا يقتل.

حتّى وهو يخطّط لطريقة إطلاق النّار على موري فرانكلين، مقدّم البرنامج المفضّل لديه، كان مدفوعا برغبة مزدوجة في الانتقام. من جهة، لم يصدّق أن يتنكّر له موري، الذي طالما أحبّه إلى درجة توهّم أنّه يستضيفه ويجعل الجماهير تصفّق له ويغمره بالحضن والكلمات التي كان في أشدّ الحاجة إليها، أن يكون هو من يجعله أضحوكة أمام الجماهير ذاتها ويسخر من فشله كمهرّج وكوميدي. ومن جهة أخرى أصرّ على أن يقتله على مرأى من الجماهير والعيون الّتي طالما تجاهلت وجوده وجعلته يعاني جرّاء ذلك. ولم يفوّت الفرصة ليقول ذلك عندما اعترف أمام الملأ بأنّه قاتل الثلاثة أوغاد وأنّه لو كان هو المقتول لمرّوا بجانب جثّته بلا اهتمام.

ما يفرض نفسه تلقائيا أمام جرائم “جوكر” هو تساؤل قديم لكامو “لماذا أكثر من رصاصة حين كانت تكفي واحدة؟” (**). لماذا أكثر من رصاصة وأكثر من طعنة قاتلتين؟! الجواب التّلقائي المهول هو: جموح انتقام النّفس المضطهَدة. 

لا يمكننا إلا أن نتساءل هل “جوكر” مجرم أم ضحيّة؟ “جوكر” ينتقم وليس يقتل، وإن قتل. فعلُ القتل عنده 

مبرّر، وإن كان غير مغفور. 

لا شكّ في أن شرّ الشّرور هو القتل، لكنْ هناك ما هو أفظع شرا منه: بناء إنسان قاتل.

_____________________________

(*) من مسرحية سوء تفاهم 

(**) من رواية الغريب

*أديبة مغربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *