رشيد الزبوري -le12.ma

رغم أني لا أنبش في مجال السياسة، أثار انتباهي، وأنا أتصفح ذاكرة الاتحاد البيضاوي لكرة القدم، موضوعان مختلفان عن هذا الفريق العريق، الذي نشأ على ثوابت ومبتدئ المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. 

في 4 غشت 2009، كتب الزميل حسن البصري، في الواحة الصيفية لصحيفة “المساء” تحت عنوان” انقلاب أبيض حوّل العربي الزاولي إلى جسد بلا روح”.. تطرق الموضوع لوفيات رياضيين في ظروف لفّها الغموض، وظلت جثامينهم ملفوفة بأسئلة بلا جواب، رغم أن الموت لا يقبل التأجيل.

“العديد من الرياضيين ماتوا في ظروف غامضة وظلت حكايا الموت أشبه بألغاز زادتها الاجتهادات تعقيدا. ونظرا إلى التكتم الذي أحاط بالعديد من الحالات، فقد الزمن عجز عن كشف تفاصيل جديدة لقضايا ماتت بدورها بالتقادم”.

وكتب الزميل حسن البصري في مقاله ذاك “نجا العربي الزاولي، الأب الروحي للاتحاد البيضاوي، من الموت في 1984، بعد أن استبدّ به المرض وحوله إلى أسير في مستشفى متعدد الاختصاصات. كان الرجل يستعجل العودة إلى الحي المحمدي لأنه لا يقوى على العيش إلا إذا تنفس هواء كريان سنطرال، المتاخم لملعب الطاس، الشهير بلقب “ملعب الحفرة”.

غادر رئيس الاتحاد البيضاوي سرير المرض، لكن الطاقم الطبي أكد لمقربيه أن الرجل عائد، لا محالة، إلى سريره لأنه مرتبط وجدانيا بفريق الحي المحمدي. وبعد ثلاث سنوات، عاد العربي إلى مصحة درب غلف بعد أن اشتد مرضه”.

ومن جانبه، قال الزميل عبد الله غلالي، الذي أنجز آخر حوار مع الزاولي ساعات قبل رحيله، في صحيفة “الميثاق الرياضي”: «عانى الفقيد من ضغط رهيب وأكد التقرير الطبي عدم تحمله الصراعات التي كان يشهدها فريق الحي المحمدي، ما أثر على سريان الدم في دماغه وأوقف حركة المخ، كنتيجة حتمية للمؤامرة التي حيكت من طرف عبد الرزاق أفيلال وقائد مقاطعة بالحي المحمدي من أجل انتزاع الفريق من بين يدي الراحل».

ورغم أن سميرة الزاولي، نجلة الفقيد، ربطت الوفاة بمرض عضال في الجهاز التنفسي «كان والدي رحمه الله مدمنا على تدخين السجائر، خاصة نوع ثريا، وكان يستهلكها بشراهة، غيرَ عابئ بتحذيراتنا، بمعدل ثلاث علب في اليوم الواحد»، فقد نفت أن تكون الوفاة نتيجة شراهة في التدخين أو ما شابه ذلك، وأكدت لـ«المساء» أنه مات بـ«الفقصة»، جراء تكالب رفاق الأمس عليه..

لقد جرّده أفيلال، بتواطؤ مع بعض اللاعبين من الاتحاد البيضاوي، بعد الانقلاب الشهير لسنة 1988 الذي أريد به سحب البساط من تحت أقدام العربي الزاولي من كل ما يربطه بـ”الطاس”، بل إن قائد مقاطعة الحي المحمدي داهم يوما “تيران الحْفرة”، واعتقل نادل مقهى الملعب بعد أن دس شخص غريب قطعة مخدر في الدرج.. كما حاولت شاحنة تابعة لجماعة عين السبع، التي يرأسها عبد الرزاق أفيلال، هدم جدار المقهى، نكاية في العربي الزاولي.

ظل الزاولي يردد، بعدما كبرت نوايا «الانقلابيين»، أنه لن يغادر الملعب إلا محمولا على نعش إلى المقبرة، وهو ما وقع يوم 13 أبريل 1987، حين التحق بالرفيق الأعلى وفي قلبه غصّة وجرح عميق، جراء تنكر فئة من أبناء الحي للأب الروحي للـ”طاس”.

خلال مراسم الدفن أجمعت كلمات التأبين على روح الإيثار التي ميزت علاقة المرحوم بالاتحاد البيضاوي، فقد كان يموت جوعا من أجل إشباع بطون اللاعبين والمدرّبين.. وكان يبيع أثاث المنزل لتأمين مصاريف إحدى رحلات الفريق: «باع والدي سيارته (من نوع فيات 132) من أجل تدبير مبلغ مالي لأداء أجور اللاعبين. وباع سرير نومه لتأمين رحلة الفريق إلى القنيطرة. وباعت والدتي محلا تجاريا لإعالة أبنائها، لأن المرحوم كان يوفر الشغل للاعبين ويترك فلذات كبده عرضة للبطالة».. تقول سميرة، التي ورثت عن والدها تركة “الطاس” ومعاناته.

مات بّا عرّوب، كما يسميه أبناء الحي، وعلى صدره وسام الرضى من الدرجة الممتازة سلمه له الملك الراحل الحسن الثاني في 1971، واعترافا من السلطات الرياضية بدوره في تنمية الكرة في المنطقة وجعلها مورد رزق لكثير من الأسماء، قبل أن يظهر فلسفة “التنمية البشرية” بسنوات…

في آخر لحظات عمره، كان الراحل يسأل عن أحوال “الطاس” وحظوظه في البطولة، قبل أن يسأل ابنته الممرضة عن أحواله الصحية. كان الألم يعتصره كلما ذكّره أحد زواره بنوايا المتآمرين، قبل أن يسلم الروح إلى مالكها وهو يتأمل صور فريق نسج معه علاقة صوفية غريبة.

بدأت رحلة العربي الزاولي مع فريق الاتحاد البيضاوي بداية الخمسينيات، حين كان سائقا لشاحنة تنقل الأسماك من الصويرة إلى الدار البيضاء. واستطاع، في فترة وجيزة، جعل “الطاس” محور اهتمام المتتبعين الرياضيين ومشتلا لصنع النجوم بعد أن اتخذ من سطح منزله الموجود في قلب ملعب “الحفرة” مكانا لمتابعة اللاعبين، معتمدا على عصاميته وحبه الصادق للفريق، إلى درجة أنه كان ملتصقا بلاعبيه أكثر من أبنائه، الذين لم يترك لهم غير ديون متراكمة صرفها على اللاعبين ووثائق وبدل رياضية ومسكن بسيط بجوار الملعب والحي المحمدي.

وأهم في وصول العديد من اللاعبين إلى الفريق الوطني، كالغزواني وبؤسا ونومير وعبدالخالق والقاسمي ويمان وفرحان عندماكان مدرّبا وطنيا.

بعد رحيل الزاولي “اختفت” احتفالية “الطاس” وفرح أبناء الأحياء القصديرية الذين كانوا يجدون في الفريق ملاذهم من الخصاص، بل إن موته كان بمثابة منعرج في تاريخ الفريق، الذي فقد هيبته ولم يعد سوى اسم نكرة في فضاء الكرة الوطنية.

قالت سميرة، بنبرة حزينة، إن والدها كان عنوانا للإيثار، فقد كان جميع أفراد الأسرة في خدمة الفريق وليس الفريق من كان في خدمة الأسرة، كما يفعل بعض المسؤولين، فإخوتي يجمعون الكرات ويدرّبون الصغار ويقودون سيارة نقل اللاعبين ويحرسون الملعب. وأضافت أن «الوضع الأسري لعائلة الزاولي يبعث على الاستغراب.. تصور أن شقيقي، الذي درّب الاتحاد البيضاوي سنوات، يعيش على وقع البطالة، وشقيقي الآخر، الذي كان سائقا لحافلة الفريق، يعاني بدوره من الإقصاء. ثم إنني عانيت، بدوري، حين دشّن الملك محمد السادس ملعب “الطاس”، إذ مُنعت من الدخول وكنت محاصَرة بعيدا عن الملعب والدموع في عيني، رغم أني اقترحت على عامل عين السبع -الحي المحمدي تنظيم معرض لصور الطاس التاريخية خلال الزيارة المولوية».

ونشرت صحيفة “العلم”، في أحد أعدادها الصادرة في 1967، عن فريق الاتحاد الرياضي: “عموم المغاربة يجهلون الكثير عن كفاح هذا الفريق الوطني الكبير فيما عدى جمهور الدار البيضاء، الذي عاش مع هذه الفرقة في أزماتها وفي أمجادها. لقد برز هذا الفريق إلى الوجود سنة 1944، أي مع بروز حزب الاستقلال. وبما أن حزب الاستقلال كان يريد أن يبدي كفاحه الوطني الكبير على أساس التعبئة العامة واتجه نحو تأسيس المدارس الحرة ومنظمات الشباب ونوادي الثقافة والتربية البدنية، فقد اتجه كذلك إلى ميدان كرة القدم، بوصفه ميدان الرياضة الشعبية في البلاد. وكان الاتحاد البيضاوي في طليعة الفرق الرياضية الحرة التي تأسست على سواعد جماعة من رجال حزب الاستقلال وهي تسعى إلى الانخراط في الجامعة الرسمية لكرة القدم، التي كانت تسير بها الحماية وفق المناهج السياسية المتبعة في المغرب آنئذ. وبعد كفاح مرير في سبيل الوجود، استطاعت أن تحظى بالقبول سنة 1950.

ورغم العراقيل المختلقة التي كانت تُنصب حينئذ في وجه الفرق الوطنية استطاع الطاس، في 1952، أن يشارك بالقسم الثاني، وفي تلك السنة حلت الأزمة السياسية بالمغرب وألقي القبض على مؤسسي الفرق الوطنية ومسيريها، مثل محمد العبدي، خليفة عامل البيضاء سابقا، وأحمد بن الحاج وردا وغيرهما، وفقدَ الاتحاد بذلك سنده المادي والمعنوي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *