حسين عصيد

 

“ساعة واحدة، ونصل إلى الحدود”، قالها الأفغاني الصغير، وهو يدخل سيارته المسدلة الستائر، مشيراً إلي بالصعود إلى جواره. خلف الأفق المغبر، يتراءى سرب من السيارات التعبة، تخوض في الحفر والحصى وسط فسحات ضيقة بين الجبال.”علينا أن نلحق بهم، كي نستأنس بهم وسط القمم هناك. فقطاع الطرق في كل مكان ! “، تابع الأفغاني، وهو يدير محرك السيارة.

بعد مسيرة شاقة، بدت الجبال الخشنة أكثر سلاسة. فبرزت غير بعيد منا سهول منبسطة، يتناثر فيها حطام لدبابات صدئة، خلفها تماماً امتد سور من الأسلاك الشائكة، حينها أدركنا أننا على أبواب”باكستان”. تقدم منا رجل رث الهيأة وقال مبتسماً:”مرحباً بكم في منطقة “هندكوش”، أنا دليلكم البشتوني إلى حفلة “باتشا بازي”.

حفل بلا نساء

كانت قرية “ميران شاه” في سفح الوادي، حيث وصلناها دون عناء. طرقنا أحد الأبواب المهملة، ليفتح عن صرير خافت. في الداخل، كان ثمة فسحة كبيرة، جلس في زواياها أشخاص كثيرون، يتحدثون إما بالكلام أو الإشارات. أدركت أنهم من أقوام مختلفة، وعندما ألححتُ في السؤال عنهم، أجابني الدليل هامساً: “هؤلاء على اليمين من “البشتون الأفغان”، أما الآخرون ذوو العمامات الداكنة هناك فهم “البلوش”، ويتحدثون لغة هي أقرب إلى الفارسية. وأغلب هؤلاء من أمراء الحرب السابقين، الذين اغتنوا من بيع السلاح في الحربين السوفياتية والأفغانية”.
بعد صب الشاي بقليل، سال المكان بحشد من الأطفال، كانوا في أعمار مختلفة، لكن أكبرهم – على الأرجح – لم يتعد الرابعة عشرة. غطتهم مساحيق التجميل، ويرفلون في أثواب من ألوان فاقعة، وعلى أقدامهم سمعت أصوات الخلاخيل التي ترن في صوت خفيض. مدفوعاً بفضول لا يُصد، سألت دليلي هامساً :”ألا ترقص النساء في حفل “باتشا بازي؟”. جفل الدليل، كما لو أصيب بطلق ناري، ليُجيب غاضباً:” نساء الأفغان والباكستانيين لا يظهرن على الملأ، هذه حفلة رجولية مائة في المائة.. نحن مسلمون يا رجل !” صدحت الموسيقى بعدئذ ، ليتنافس أطفال “باتشا بازي” في الرقص لساعات امتدت حتى صاحت الديكة بميلاد يوم جديد.

رجال الحرب

في الصباح التالي، كان لي لقاء مع أحد المدعوين إلى الحفل.”الملا نصر الدين بندارا”. رجل في عقده السادس، نحيف، ناتئ عظام الوجه. تبرزُ رقبته من قميصه وكأنها رقبة طير. ترجل من سيارة ” رانج روفر” فارهة، تكوم في مقعدها الخلفي ثلاث رجال بوجوه غير ودودة، يتكئون في ملل على أعقاب بنادقهم”الكلاشنيكوف”. فور إحساسه بالألفة، تحدث بفخر:” أنا من يدير حفلات “باتشا بازي ” في هذه المنطقة الحدودية، كنا نشتغل في كل مكان فيما مضى، لكن مع ظهور حركة طالبان، حوصرنا مرغمين في هذه المساحة الضيقة حيث ينشط كل شيء: من بيع للنساء المسبيات من طادجيكستان وأوزباكستان ،إلى تهريب الأفيون والسلاح”.لما سألته عن أطفال”باتشا بازي”، أجاب ضاحكاً:” أمرهم يسير. فشراء طفل في هذا الركن من العالم، أسهل من شراء قطعة خبز. نحن عبيد لتقاليد لا تمحي. فالنساء لا يخرجن ،ولا يتسكعن في الطرقات. لهذا تفتقت أذهان الرجال بحل بديل لذلك، فلكي يرفهوا عن أنفسهم، آثروا استعمال الذكور بدل الإناث. بهذا فلا الدين، ولا التقاليد سيمسان بسوء”. وعن سؤاله عن زمن هذه الظاهرة، أجاب بثقة:”لا أدري بالتحديد متى بدت هذه الظاهرة، لكنها كانت تحدث في الخفاء فيما مضى. لكن مع اندلاع الحروب، وانحصار الأمن. تناسلت شتى الأنشطة المحظورة”. كمن أسقط ثعلباً في الفخ، سألتهُ منتصراً:”إذن فأنت تعترف أنك تمارس نشاطاً محظوراً”. بلا اكتراث أجاب:”قد يفعل المرء أي شيء من أجل كسرة خبز، لكني راض عن نفسي على أية حال لأني مسلم. قد أكذب، وقد أسرق، لكن ركعة واحدة تمسح ما تقدم من ذنبي وما تأخر !”

حكومة من ورق

في الطرف الآخر، بمدينة”خوست” الباكستانية، آخر الحواضر المتاخمة للحدود مع”أفغانستان”. جلس العقيد”سردار محمد” في مكتبه، بقسم الشؤون العامة بوزارة الدفاع الباكستانية. على الحائط، ألصقت بضع خرائط لدولة”باكستان”، والدول المجاورة لها. فور سؤاله عن ظاهرة الأطفال الراقصين. أومأ برأسه جهة إحدى الخرائط وقال:”كل هذه النقط الحمراء، إنما هي أوكار للمهربين وقطاع الطرق. مشكلتنا أننا نتقاسم حدوداً مفتوحة مع العديد من البلدان. إيران، الهند، أفغانستان، طادجيكستان، تركمانستان و أوزبكستان. وفي ظل الانفلات الأمني الذي يهيمن على المنطقة، لا أرى حلولاً على الأمد القريب. أطفال المنطقة في عز تشردهم، إن لم يحملوا السلاح، حتماً سيصبحون راقصي”باتشا بازي”.
على تلك الأرض، حيث يُنبت التراب عذاباً.. ورصاصاً. أطفال في عمر الزهور، تلقفهم الألم، حتى إن لم يحملوا السلاح، صاروا راقصين في حفلات “باتشا بازي”، ليصبحوا مجرد حكايات بائدة ،تولد في النفس شعوراً غامضاُ وحزيناً.

عن مجلة “شتيرن” الألمانية، نونبر 2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *