يونس التايب

 

عندما كنت صغيرا أصطحب والدي، أطال الله عمره، إلى أحد مرتفعات الأطلس المتوسط الشمالي، لزيارة جدي و جدتي، رحمهما الله جميعا، كنت ألاحظ كيف أن السلام بين الرجال و الرجال، و بين النساء والنساء، و بين الرجال و النساء، في المناسبات و في الأسواق الأسبوعية، كان يتم، عند كل لقاء جديد، بداية بتقبيل هذا ليد هذا، وتقبيل هذا ليد هذه، و تقبيل هذه ليد هذا، ثم ترد القبلة على يد الآخر أو الأخرى… ثم يتم تقبيل رأس الآخر، خصوصا إذا كان، أو كانت، أكبر سنا …

لم أكن أفهم في ذلك السن، كل دلالات هذا الشكل الاجتماعي والإنساني في التعامل. كما كنت لا أفهم كيف يتم ذلك بمثل تلك الطلاقة و الانسيابية، و بثقة كبيرة في النفس، و كيف كانت هامات الناس منتصبة و هم ينحنون باحترام و شموخ واضح و طبيعي…. كما لم يكن يحضر في تلك لحظة السلام، أي حرج أو تمايز في المعاملة بين الرجل أو المرأة، لكل مكانته و احترامه و حدود التوقير الواجب له …

ولما كبرت و تعمقت في دلالات الأمور، و جلت بين قبائل مناطق أخرى من وطني المغرب، فهمت أن ذلك السلام بين الناس في قبيلة أجدادي، كما في باقي المناطق، بذلك الشكل الذي وصفته، كان لحظة تعامل إنسان مع إنسان، إما حبا أو مودة أو أخوة، أو من باب الأدب و الأخلاق الاجتماعية …

لذلك، على كل من لا يفهم أن تقبيل يد أو رأس أو كتف، من تحترمه وتوقره أو من تحبه، كانت متأصلة في ثقافة أبناء قبائل المغرب، وستظل، تعبيرا اجتماعيا حضاريا تلقائيا، من أبناء هذا الشعب المجبول على تقدير قيمة الإنسان بعيدا عن أي اعتبار آخر مادي أو تراتبي طبقي…

والأكيد أنه لم يكن الأجداد بأقل كرامة ولا نخوة و لا غيرة و لا رقيا حضاريا، من كل أولائك الذين التفتوا بقسوة، هذا اليوم، لقبلة أخوية رسمتها سيدة مغربية، بشكل عفوي فيه محبة و شكر و تقدير لسيدة زائرة، لها مكانتها السياسية و الدبلوماسية على مستوى أكبر دولة في العالم، ولها شكلها اللطيف الودود و تعاملها الرقيق مع من استضافوها، و قامت هي بدورها باحتضان السيدة المغربية عيشة بوركيب و السلام عليها ….

ولكن ذلك لم يكن ليلفت انتباه من يبحثون في كل شيء يحدث في هذه الأرض، عن “دليل” يحتقرون به أنفسهم و ذواتهم و أبناء وطنهم … و لا كانت لتهمهم باقي محطات هذه الزيارة، و ما نشرته بشأنها ضيفة المملكة من تغريدات قوية الدلالة و الأثر في لغة الديبلوماسية العالمية، و من صور رائعة يتلألأ فيها القفطان المغربي الأصيل، و أمور أخرى تدل على أن الذي انحنى اليوم لم تكن تلك السيدة المغربية الطيبة، وإنما انحنت ضيفة محترمة بكل صدق أمام عراقة هذا الشعب، وتقديرا لرسوخ هذه المملكة و حكمة اختياراتها، و اعترافا بسمو ثقافة هذا الوطن، و تفاعلا إنسانيا مع طيبوبة هذا الشعب بنساءه و برجاله.

شكرا السيدة إيفانكا ترامب على زيارتك لبلدنا، و مرحبا بك في دولة عمرها يقاس بالقرون … و لا عزاء لمن لا يريدون استيعاب دلالات ذلك…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *