محمد نورالدين أفاية

تعرَّض المدّ التحديثي في الثقافة المغربية لعملية إجهاض سياسية حقيقية امتدّت طيلة الخمسة عقود الماضية. وأحسب أن الحديث عن المثقفين أو عن “النخبة الثقافية”، اليوم، يفترض استحضار التاريخ الطويل من الحرب التي تعرّض لها الذكاء المغربي من مختلف الأطراف السياسية، التي أشهرت، طيلة هذا الوقت، كل ما تملك من قوة لمحاصرة الإبداع والثقافة النقدية.

وبسبب هذا الاختيار السياسي يؤدي المغرب، اليوم، أثمانا باهظة في سياسته وثقافته وطرق حضور الذاتية المغربية أمام ذاتها وأمام العالم. لقد اختارت الدولة، طيلة العقود التي سبقت بداية هذه الألفية، التقليد، بأن ضخّت، في البرامج التعليمية والإعلامية وكل أماكن العيش، بجراثيم “الإسلام السياسي”، الصريح والمقنع، لمحاصرة كل النزوع العصرية الهادفة إلى التحرر من الإذلال وإثبات الذات وخلق الثقة في الإنسان.

والظاهر أن الآراء تتفاوت حول النخبة وأدوار المفكرين والمبدعين وتتوزّع باستمرار حول قدرتهم على الفعل والمشاركة في قضايا المجتمع وصنع الأحداث. فنجد من يرى أن النخبة، بمختلف تموقعاتها وانتماءاتها، أظهرت عجزها وتقاعسها عن التفاعل الإيجابي مع حركية الأحداث وفقدانها بوصلة التفكير الملائم لقراءة المرحلة، بل وفقدت “صدقيتها، و”مشروعيتها”، و”فعاليتها”، كما يصر البعض على تكراره بكثير من التشنج المطمئن، وكأنّ صاحبه معفى من هذا الحكم القاسي. وهناك من يخال أن سرعة التحولات السياسية والاجتماعية- التي حصلت وما تزال- جرفت المثقفين وزجَّت ببعضهم في إطلاق إسقاطات وتمنّيات حول التغيير؛ لكنّ هذه الاستيهامات سرعان ما تبخّرت بسبب ما أفرزت خلخلةُ الوقائع السياسية من قوى نُكوصية سمحت لها “اللعبة الليبرالية” وشروط الاقتراع العامّ باحتلال المواقع العددية الأولى.

كما أننا وجدنا من يؤكّد أن المثقف المغربي، وخارج كل مراهنة على أدواره، أصبح “صورة افتراضية” يحرّكها حنين إلى نماذج وأوجه مثقفين انتهى عهدهم وتأثيرهم. والحال أن الأحداث والقوى الفاعلة فيها لم تعد تعترف بالروايات الكبرى أو المشاريع الفكرية، لأن “الاستخفاف البنيوي” بالثقافة العصرية أنتج فئات وبنيات اجتماعية تجرُّ إلى الوراء، تُعاند التحديث الفكري والسياسي وتُفرغ الأفكار والمفاهيم من دلالاتها.

وعلى العكس من ذلك تماما، نعثر على آراء وكتابات ترى أن المثقف المغربي لم يكن بالسلبية التي أطلق البعض، بخفّة، على أدائه، كما لم يكن محايدًا؛ وإنما هو ملتزم، بطرقه الخاصة، بمقالاته وكتاباته وإبداعه ومواقفه. ليس أداؤه رياديا أو قياديا بدون شك، لكن يصعب تحمُّل ادّعاء أنه مجرد كائن حالم أو صامت كلّيا.

ويبدو لي أن الحديث عن التزام المثقف بقضايا السياسة والمجتمع أو ارتباطه” العضوي” بقوى التغيير حديث تبسيطي و”إيديولوجي”، لأن المثقف يستحق جدارة تسميته ممّا يكتب ويتخيّل، ويبدع ويفعل، وليس ممّا يدعي تمثيله. 

وإذا كان البعض يلهثون وراء التموقعات والشهرة، فإن إنتاج المثقف، سواء كان شاعرا أو روائيا أو رساما أو سينمائيا أو موسيقيا أو مُنظّرا، هو الأداة الأنجع التي بها يصوغ أسئلة الزمن والوجود ومن خلالها ينبش في مسارات الحياة وآفاقها.

ورغم أننا نشهد منسوبا جارفا من الانفعال وتضخما للمشاعر وسطوة للدعوة وللإيديولوجيا على حساب الثقافة والحس النقدي، فإننا ما زلنا نفاجأ بالقدرة اللامحدودة لمبدعين وكتاب وفنانين يصرّون على معاندة هذا الضجيج والاستمرار في الكتابة والحضور.

ألا تندرج عملية إعادة طرح سؤال المثقف وأدائه في ما يجري من تحولات سياسية، في السياق المغربي الحالي، ضمن إحساس عميق بالغموض في تعريف المثقف والتباس في تعيين دوره وموقعه؟ وكيف يمكن التفكير في مثقف يجد نفسه في مواجهة حالة مستدامة من الاشتراطات التي تملي عليه تأجيل القيام بمهمته أو الانخراط الفوري في حركية متأججة؟ هل العودة إلى سؤال المثقف والمسألة الثقافية تفيد بأن الأمر يتعلق بحاجة نقدية أم هي نتاج شعور بلاجدوى الكتابة والتأليف؟ ثم هل الخلفية المحركة لهذه العودة يبررها التزام ما بقيمة الفكر بوصفه مدخلا لإشهار الحقيقة أم باعتباره مجالا معياريا لقياس الفعالية والفائدة؟

ومهما كان فهمُنا لفعل المثقف والثقافة، سواء أكان نشاطا عقليا ذهنيا يحوز ما يلزم من الاستقلالية النسبية إزاء حقول ومجالات أخرى، بما فيها العمل السياسي المباشر، أو كان أداة من أدوات التأثير في التاريخ وصنع الأحداث، فإن حديثنا اليوم عن هذا الموضوع يفترض الإشارة إلى الاعتبارات التالية:

أولا؛ أن الواقع السياسي والاجتماعي، في العقدين الأخيرين كما في الحركية المتوترة الجارية، كشف العديد أوهام النخبة عن ذاتها وأخضع أساطيرها لامتحان عسير جعلها، عن وعي صادق أو على الرغم منها، تتساءل عن صدقية تأليفها وقيمة كتابتها وفعالية أدائها، في سياق سياسي مغربي لا يمتلك تقاليد الاعتراف أو آداب الإنصات، وأحرى أن يمنح منتجي الرأسمال الرمزي الأهمية الاجتماعية المميزة التي يحوز في أوطان أخرى.

ومن تمّ فالحديث عن المثقف، اليوم، يندرج ضمن مناخ عام لم يعد يحتمل تبرير نعت المثقف بوصفه “مرشدا” أو حاملا لرسالة، أو مبشّرا بحقيقة استثنائية أو داعية لمشروع شمولي؛

ثانيا؛ أن المثقف المغربي، أو المهتم بالمسألة الثقافية يشعر، أو يعي بشقاء نسبي ومتفاوت، أن مجال إنتاج وتداول الأفكار والرموز والقيم يسود فيه قلق كبير وحيرة تستوطن ذاتية من يجد نفسه داخل أو قريبا من هذا المجال. ويرجع ذلك إلى الإحساس بأن لا شيء على ما يرام وبأن المعطيات لا تتساوق مع انتظارات المنتمين إليه وبأن المرجعيات اهتزت والحقائق التي كانت تبدو بديهية في الماضي القريب تحولت إلى أشكال من السراب لا تستجيب لأي مقياس من مقاييس التفكير والمساءلة. وهكذا نجد أنفسنا عند عتبة أقرب إلى عالم ثقافي سوريالي حيث الالتباس والانفعال سيد الموقف، في اللغة والخطاب والمنهج والجدل والتبادل؛

ثالثا؛ يبدو أن المثقف المغربي، فضلا عن اهتزاز المرجعيات والقيم، بدأ يفقد الثقة في أفكاره وفي نفسه أمام سطوة السياسة ومشاهد التراجع وضجيج وسائل الإعلام. فالأطر التقليدية التي عادة ما كانت تسمح لهذا المثقف بالتعبير عن إنتاجه وأفكاره، مثل الجامعة، تتعرض للإهمال التدريجي. وحرّكت وسائل الإعلام، المكتوبة والسمعية البصرية والإلكترونية أقلاما وأصواتا وشخوصا تصوغ خطابات تتقدم كأنها تمتلك الكفاية والمشروعية للحلول محل المثقف النقدي والمؤرخ ومحل السياسي المعارض والأحزاب.. إلخ.

وأمام هذا الثالوث: انهيار الجامعة، الاحتواء السياسي، التباس الأدوار، يتقدم المثقف، باختلاف وتفاوت مجاله وعطائه، وكأنه فقدَ البوصلة؛ إذ نجد منهم من بقي متمسكا بأشكال مختلفة من اللغة “الخشبية” رغم التلوينات البلاغية وتكرار الصيغ الظاهرة السطحية، ومنهم من التجأ إلى الصمت، إما احتجاجا على التلوث السائد أو الالتباس المستشري أو توخيا للسلامة، بالانكماش على الذات والانغماس في غربة مريحة، وإما الادّعاء بأن التفكير لم يعد مجديا لأن الجمهور المفترض أن يتلقاه لا يرقى إلى مستوى إدراكه ومواكبته ولأن قنوات جديدة ودعاة وخبراء جدد في الفكر والإستراتيجيا أصبح لهم التأثير الأكبر؛

رابعا؛ القول إنه لا يزال للمثقف دور ومهمة، كيفما كانت طبيعتها، وخصوصا في أزمنة الانتقالات السياسية الملتبسة أو العنف، أصبح قابلا للجدال والرد، لا سيما في زمن يشهد سيطرة ساحقة للخطابات العاطفية وللاقتصاد والتجارة والرأسمال المالي وللغة التكفير، إلى درجة أن الفاعل السياسي نفسه لم يعد يملك هوامش التأثير في مسار هذه الدينامية الجديدة الجارفة؛ فكيف بالأحرى يمكن للمثقف، الحامل لرأسماله الرمزي ولحقائقه المثالية، أن يكون له تأثير في الواقع أو يسهم، مؤسسيا وعمليا، في الحد من الانهيار أو الإصلاح أو الإسهام في “الانتقال الديمقراطي”؟

خامسا؛ يعاني الوسط الثقافي، كما المجتمع المغربي برمته على ما يبدو، من غياب لآلية إنتاجية وتبادلية مُبدعة تتمثل في مسألة الاعتراف، إلا في ما ندر. وبقدر ما يشتكي المثقف، والمبدع من عدم اعتراف الآخرين، سلطة وهيئات ومؤسسات وجمهوراً، لا ينتج، هو بدوره، ما يلزم من إشارات الإقرار بوجود الآخر والقبول بقدرته على الاجتهاد والاقتراح والإنتاج. عالم من الأمزجة والحساسيات، لا تتفرد به الجماعة الثقافية وحدها.. عناصر وحالات “باثولوجية” لا تسعف الوسط الثقافي، وحتى السياسي، في إنتاج حركية فكرية ورمزية قادرة على المساهمة في تطويق الأمية المستشرية ولا في صياغة أخلاق المناقشة والتواصل، أساسها الإقرار بالتعدد والاعتراف باجتهادات الآخرين.

تتكرّس مثل هذه الحالات في وقت نعرف أن المثقف المغربي الحامل لقيم الحداثة لا يزال يشكل ظاهرة تفتقر إلى القاعدة الاجتماعية، خصوصا في مجالات الكتابة الأدبية والإبداع الفني والفلسفة والعلوم الإنسانية، وبأن الكتابة والكتاب، باعتبارهما الوسيلة الأساسية لتوصيل أفكار المثقف، في حالة من التراجع قياسا إلى اجتياح الصور، والأجهزة السمعية -البصرية والإلكترونية، ومن تدني مستوى المعيشة والأمية الواسعة وانهيار المنظومة التعليمية، بمستوياتها المختلفة، وضعف انتشار الصحيفة وعادات القراءة، خصوصا في أوساط النساء والشباب.

ما يعكسه الواقع الثقافي المغربي من مظاهر البؤس والسلبية، سواء في علاقة المثقف بذاته وبقبيلته الثقافية النوعية أو في ارتباطاته المتموجة بالسياسة والسلطة، لا يمنع الانتباه إلى الانفتاحات الكبرى التي أنجزها المثقف المغربي، فرديا وبدون دعم مؤسسي، وضمن حرب منظمة على ذكائه وخياله.

ولكنّ المؤرخ النزيه للثقافة المغربية المعاصرة سيسجل، بلا شك، المجهودات الكبرى التي بذلها مثقفون كبار من أجل أن يستحقوا موقعهم الرمزي والثقافي داخل وسط سياسي واجتماعي يعاند التفكير والاجتهاد.. أسماء بارزة أثرت في أكثر من جيل، رغم الشعور المأساوي بأن كل فئة تبدأ مشروعها من البداية، ونصوص رائدة ستبقى علامات فارقة في تاريخ الوعي المغربي بالذات وبالعالم. هذا ما تفرضه علينا قيم الاعتراف والدعوة إلى فهم صعوبات الفهم والوعي الثقافي. طاقات من الذكاء لا حد لها تعرضت للتشريد والضياع بسبب التحالف بين الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي والعنف. ورغم ذلك نشهد آلافا من الشباب يصرّون على أخذ الكلمة، في ظروف ملتبسة وصعبة، وعددا كبير من النساء أصبحن يوقعن أعمالهن بدون تردد.

ويبدو أن بلادنا، اليوم، تواجه خطر التطرف وتدعو إلى الانتماء إلى زمن العالم، لكنْ من دون أن تعمل، حقّا، على استنبات مقومات الفكر العصري في المؤسسات والعقليات والوجدان، ولا سيما على الصعد التعليمية والثقافية. بل إنها تنشئ مؤسسات عصرية وتفرغها من مضامينها لأسباب واهية ومزاجية حتى.

لذلك لا مناص من إعادة التأكيد أنه يتعين فتح المجال للمبادرة الإبداعية ذات التوجه الجماعي، ولا سيما للشباب والنساء، لأنه في هذا التوجه وبه تتفتح الملكات، وتفجير طاقات المتخيل وإقصاء الخوف من الحرية والدخول في كل مغامرة تنزع الإنسان من سلبيته وتُحرّره من ثقل مظاهر السلبية والتفكير السحري التي تجثم على الإرادات. ولن يتأتى ذلك دون إطلاق حركية ثقافية عامة تسهم في بناء مجال عمومي يتخذ من الإنسان، كوجود وهوية متنوعة، منطلقه وهدفَه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *