حسين عصيد

 

بُعيد عملية الاغتيال التي استهدفت -عن طريق الخطأ- شابا من رواد مقهى “لاكريم” وسط مدينة مراكش، تنبّه المجتمع المغربي، كما الصحافة، إلى التهديد الذي باتت تشكّله المافيا الهولندية، لا سيما الفرع المغربي منها، على أرواح المواطنين في المغرب، خاصة أن العملية الأخيرة في مراكش أكدت أن هذه المنظمة، التي لم تتجاوز عملياتها الاجرامية طيلة سنوات رقعة الاتحاد الأوربي، قد نقلت مؤخرا إحدى عمليات تصفية الحسابات إلى المغرب، في واقعة دامية كانت “الأجرأ” -تقريبا- في تاريخ المغرب، خاصة أنها شهدت عملية إطلاق نار بسلاح ناري.

النشأة.. هولندا

حتى حدود 1991، وفي أعقاب تفكك الكتلة الشرقية، انفتحت الدول الشيوعية على الاتحاد الأوربي، الذي انطلق رسمياً في 1992. وفي ظل ظروف التطور الاقتصادي المتنامي الذي شهدته القارة العجوز، سُجّل نمو حذر في دول الشرق، حيث وجدت عصابات الجريمة المنظمة مجالا خصبا لتطوير قدراتها وفتح أسواق عابرة للمسافات تربط الشرق، المتخلف نسبيا، بالغرب، المتقدم.

وبعد استقرار أعداد كبيرة من مواطني الكتلة الشرقية في دول غرب أوربا، بات الشباب من “مجرمي” الجيل الجديد قادرين على تحمّل المسؤولية وتحويل الجريمة -التي كانت في السبت عابرة للمسافات- كيانا قادرا على التشكل من الداخل دخل، مع بداية الألفية الثالثة، في صراعات مع منافسين له، كان أهمّهم شباب العصابات المغربية من شباب الجيل الثاني، وكذا نُظراؤهم من جزر الأنتيل الهولندية والأتراك، الذين تقاسموا، على امتداد سنوات، الأرباح غير القانونية التي غنموا من تجارة المخدرات والدعارة.

ورغم تمكّن الشباب السلافيين المتحدرين من دول شرق أوربا والمولودين في هولندا من الاندماج في المجتمع في مدة يسيرة، فقد عانت فئات أخرى، كالمغاربة والأتراك، إذ تعذر عليها ربط علاقات اجتماعية وإنسانية مع باقي أطياف المجتمع الهولندي، رغم تسامحه وانسجامه، ما حفر هُوة من القطيعة بين شباب هذه الفئات وبين باقي الشباب من الإثنيات الأخرى. فقد كشفت دراسة أشرف عليها القائمون على “مكتب التخطيط الاجتماعي “SCP”، التابع لوزارة الصحة والرعاية الاجتماعية الهولندية، تم نشرها في نونبر 2015، والتي همّت 3 آلاف شاب من أعمار وجنسيات مختلفة، أن “أبناء المهاجرين من الشباب المغاربة والأتراك هما الفئتان اللتان لم تتمكنا بعدُ من الانصهار كليا في المجتمع الهولندي”.

 

الطريق إلى الجريمة

 

أفاد تحقيقٌ لأسبوعية “Elsevier” الهولندية مطلع أكتوبر الجاري بأن “الشباب من أبناء المهاجرين المغاربة باتوا يُعدّون أكثر الفئات المتأثرة بالهدر المدرسي والانسياق إلى عوالم الانحراف والجريمة في هولندا ويتصدّرون لوائح الجاليات المُثيرة للشغب والفوضى، وكذا ضحايا جرائم القتل الناتجة عن تصفية الحسابات”، إذ تشهد مقاطعات أمستردام وروتردام أكبر عدد من هذه الجرائم، التي تستأثر عمليات تصفية الحسابات الناتجة عن تجارة المخدرات بالحيز الأكبر منها، قبل أن يُشير إلى أنه “رغم كون أغلب هؤلاء الشباب يتوفرون على الجنسية الهولندية، ما يُخول لهم إمكانية التمتع بكل الحقوق المدنية كسائر المواطنين، فإن مسألة انصهارهم في النسيج الاجتماعي الهولندي تبقى مُستبعَدة، لكونهم لا يُنظر إليهم فقط كأجانب، بل كأجانب ومسلمين أيضا! ما يتسبب في دفعهم إلى الانغلاق في “مجتمعات” صغيرة، إذ يُصبحون عرضة للفقر والتهميش وكذا طرائد سهلة في يد المتطرفين الدينيين!”..

من جهة أخرى، يبقى الولاءُ المزدوج الاتهامَ الرئيسي الذي تُوجّهه بعض التنظيمات والمؤسسات الهولندية المحسوبة على الأحزاب اليمينية لأبناء الجاليات المُسلمة، خاصة المغربية منها، والذي لاحت إرهاصاته الأولى منذ اعتداءات 11 شتنبر 2001، ليطفو على السطح بصورة طاغية في 2004، إثر مقتل المخرج ثيو فان خوخ على يد متطرف مغربي من أصول هولندية، ويُصبح عداء علنيا في أعقاب تفكيك قوات الأمن المغربية في مدينة الناظور خليةً إرهابية في يونيو 2015 كانت تتأهب لشنّ هجمات في مدن متفرقة في هولندا.

وأمام انسداد الأفق وشيوع أشكال الاغتراب الفكري والديني لدى الشباب المغاربة في هولندا، باتت أبواب الجريمة مشرَعة أمامهم أكثر من ذي قبل، ليبدؤوا في تشكيل خلايا إجرامية متفرّقة مع مطلع الألفية الثالثة، تحولت إلى تنظيمات منظمة تبسط نفوذها على مساحات واسعة من أوروبا. وفي هذا السياق، استطاعت عصابة “السلاحف” المغربية منذ 2012 أن تستحوذ على ما يُوازي ثلث عمليات نقل المخدرات بين أمريكا اللاتينية والمغرب، والتي تمر غالبا على ميناءي “أنفيرس” البلجيكي و”روتردام” الهولندي. غير أنّ نشاطات أعضائها في الحواري الخلفية لهولندا باتت مُهددة من شرطة “إنتربول”، من جهة، ومن العصابات المنافسة، من جهة ثانية، خاصة بعد “اختفاء” شحنة كوكايين يبلغ وزنها 200 كيلوغرام، ما أدخل العصابة المغربية في أكثر النزاعات دموية في أوربا مع تنظيمات “مافيوزية” أخرى مرتبطة بدول مختلفة، سقط على إثرها عشرات القتلى من الطرفين، ليُفتح المجال لتنفيذ اغتيالات في بلدانٍ بعيدة تمّ بعضها في أمريكا اللاتينية.

وأكد الصحفي والكاتب الهولندي راف سوفيلر، في كتابه الجديد “مافيا بورغيروكو المغربية في أنتويرب”، الذي لاقى رواجا كبيرا في 2017، قوة التنظيمات الإجرامية المغربية في هولندا وقدرتها -رغم كل العوائق- على التحرك والمناورة، بل ونقل عمليات ترويجها للمخدرات وتصفيتها للحسابات إلى ما وراء البحار”، مبرزا أنها “تمتلك فروعا في العديد من الدول الأوربية، بفضل وجود جاليات مغربية كثيرة فيها، وهذه ميزة أخرى تفسّر سرعة انتقال شرارة  عمليات التصفية والانتقام بين هذه الشبكات من دولة إلى أخرى”، مضيفا أن “حرب المواقع وتصفية الحسابات الخاصة بمغاربة هولندا تقترن بتجارة المخدرات وأن أغلب الضحايا يتحدرون من شمال المغرب، وهذا في حد ذاته مؤشّر واضح على ارتفاع العنف بين الشباب المغاربة المقيمين بهولندا وعلى تحول كبير في أسلوب الجرائم المرتكبة من قبَلهم، إذ سُجّل في 2013 لوحدها مصرع 10 مغاربة في ظرف لا يتجاوز ستة شهور!”..

“قصص” مغربية في كتاب

أورد سوفيلر في مؤلفه روايات صادمة عن أعضاء المافيا المغربية الذين يتحركون على خط رفيع لا يتجاوز طوله بضع عشرات من الكيلومترات، يربط الجنوب الهولندي بمدينة أنتويرب البلجيكية، وفي أماكن معزولة منه، عبر الأحراش والغابات الفاصلة بين البلدين، حيث تتم أغلب الصفقات الكبرى لتجارة مخدّرَي الكوكايين والحشيش المغربي، كما تُحبك خطط الاغتيال وجرائم القتل العنيفة، لافتا إلى الشهرة الواسعة التي حقّقها بعض زعماء المافيا المغاربة هناك، أشهرهم “سعيد ف.” الذي يُلقبه مجرمو العالم السفلي بـ”زونيبيت”، أي “زهرة عبّاد الشمس”، الذي تمكّن، في سنوات قليلة، من السيطرة على أهم الطرق التي تمر منها شحنات المخدرات. كما ربط علاقات وثيقةً مع عناصر منتمين إلى عصابات من جزر الأنتيل ومع موظفين حكوميين في الموانئ القريبة، يستقبلون -في منأى عن أعين الشرطة الهولندية- شحنات المخدرات في حاويات تأتي على متن بواخر معينة، ليتم إرسالها إلى وجهات مختلفة في هولندا وبلجيكا، بينما يصل بعضها إلى مناطق بعيدة محادية لدول رومانيا، وروسيا البيضاء أحيانا.  

كما أكد سوفيلر أن تجارة المخدرات في هولندا وبلجيكا أوصلت عددا من الأسر المغربية إلى حدود قصوى من السيطرة، إلى درجة أنها أصبحت كيانات تشتغل في الجريمة المنظمة، كالمافيا الإيطالية في الولايات المتحدة، إذ تتعاون مجموعة أسَر يحكمها أشخاص ذوو نفوذ كبير، لتُسيطر على الأعمال غير المشروعة في منطقة ما، وفي الآن ذاته تُدير أعمالا تجارية مربحة لتبييض الأموال، كمحلات “السندويشات” وقاعات الحفلات والمطاعم، يفتح بعضها فروعا في المغرب كذلك، إضافة إلى إنشائهم، بكيفية متكررة، شركات وهمية يبيّضون عبرها الأموال سنوات قليلة، قبل أن تُلغى، لتُفتح مكانها شركات أخرى بأسماء مختلفة، مستفيدة من الحرية الكاملة وغير المشروطة التي يمنحها المُشرّعان للمستثمرين في البلدين.

ومن خلال إحصائه لعمليات إطلاق النار التي دارت بين عصابات المافيا في هولندا خلال 2017 فقط، أحصى سوفيلر سبع عمليات منها كانت من تنفيذ عصابات مغربية تابعة للأسر المُهيمنة الكبرى، كعائلة “اليوسفي”. وهي العمليات التي أسقطت، منذ 2014، العشرات من القتلى، أشهرهم محمد بولعوين، الذي اغتيل في مدينة “أوتريخت” خلال العام نفسه، ونجيب بوهبوه، المغدور في مدينة “أنتويرب”، ثم أحمد لغضف، الذي أُعدِم وسط الشارع العام في مدينة “نيميغين” في 2015.. وكلهم عناصر إجرامية خطيرة لم يذهب موتهم جزافا، حسب الكاتب، بل تم الانتقام لهم من قبَل العصابات المغربية، في عمليات اغتيالٍ جريئة لم تتمكن الشرطة من حلّ ألغازها إلى اليوم.

من جهة أخرى، باتت الدوائر السياسية الهولندية العليا وبعض رجال السياسة أكثر استعدادا للّعب بورقة التأثير السلبي للجريمة المغربية في هولندا لتشديد الخناق على الجالية المغربية والتأسيس لسنّ قوانين مستقبلية صارمة تجعل حياتهم في هذا البلد أكثر سوداوية.. وفي هذا السياق، إذ يشن “حزب الحرية”، الذي يقوده السياسي المتطرف خيرت فيلدرز، منذ 2014، حربا لا هوادة فيها ضد أفراد الجالية المغربية في هولندا، إذ لم يتوانَ عن نعتهم بـ”حثالة المجتمع” ووصفهم بكونهم “المسؤولين الأوائل عن حالة انعدام الأمن التي تشهدها الشوارع الهولندية!”.. وقد بدأت تصريحاته وخرجاته الإعلامية المتوالية تُواجَه بالتأييد من لدن شرائح واسعة من المجتمع الهولندي، وأدى ذلك إلى تمكّنه من رفع رصيده من المقاعد البرلمانية في الانتخابات الهولندية لسنة 2017 إلى 19، بدل 15 مقعدا فاز بها في انتخابات 2012، في حين تراجع الحزب الليبرالي، الفائز بالانتخابات، والذي يقوده رئيس الوزراء مارك روته، إلى 31 مقعدا فقط، بعدما فاز خلال الانتخابات السابقة بـ41 مقعدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *