حسين عصيد 

 

لا يختلف اثنان حول كون “حرب الرمال” أكبرَ الأزمات التي عصفت، يوما، بالعلاقات المغربية -الجزائرية التي أرْخت بظلالها القاتمة على السياسة بين البلدين فترة طويلة، إلا أن المؤرخين، خصوصا الفرنسيين منهم، اعتبروا أزمة اختطاف زعيم المقاومة الجزائرية بن بلة من طائرة مغربية المنعطفَ الأكثر تأثيرا في تاريخ هذه العلاقة، التي طبعها التوتر على الدوام، والحدث الأبرز الذي ترك الشرخ قائما بين الرباط والجزائر طوال العقود الأربعة المنصرمة.

كان شهر فقط يفصل المغرب عن نيل استقلاله، وفي يوم 22 أكتوبر 1956، تم اختطاف الطائرة المغربية المُقلة لقادة الثورة الجزائرية أحمد بن بلة وزمرة من أصحابه في الكفاح، محمد خيضر، حسين آيت أحمد، ومحمد بوضياف، والتي كانت متوجهة من الرباط إلى تونس العاصمة، وهو حدث تضاربت الروايات بخصوصه، إذ سردت كل جهة تفاصيله حسب موقعها من خارطة الصراع الدائر في المنطقة، والمرتبط أساسا بخارطة شمال إفريقيا وتوازناتها الإقليمية والدولية، والتي تتشارك فيه عدة أطراف، منها المغرب والجزائر ومصر وفرنسا.. أطلقت بسبب تلك الروايات التي اختلط فيها حُسن النوايا بالتخوين، سهام الاتهامات، التي مسّت مباشرة الأطراف الأربعة. إلا أن التاريخ لم يمنح السابر لأغواره فرصة الوقوف على حقيقة ذلك الحدث، والتي ضاعت على ألسن الخصوم المتصارعين من شتى الأطراف.

الروايتان المصرية والجزائرية

تؤكد الرواية المصرية وجود مؤامرة ونية مبيتة لاختطاف الزعيم الجزائري بن بلة. وقد اختُصرت وجهة النظر هذه في مؤلف “عبد الناصر والثورة الجزائرية” لكاتبه فتحي الديب، الذي شغل منصب مدير المخابرات المصرية حينئذ، والذي روى أن اجتماعا عُقد بين بن بلة والمسؤولين المصريين ليبلغوه بخبر وصول مندوب من ملك المغرب محمد الخامس يحمل رسالة يطلب فيها الاجتماع بالإخوة ممثلي قيادة الثورة الجزائرية في الخارج، بغية التشاور معهم حول مستجدّات القضية الجزائرية وحاجيات جيش التحرير في كل الجبهات إلى كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة. إلا أن الزعيم جمال عبد الناصر رفض فكرة عقد هذا اللقاء بدعوى احتمال تدبير مؤامرة في الخفاء بالاتفاق بين بورقيبة والحكومة الفرنسية وعملاء فرنسا في المغرب لاعتقاله، ناصحا بنبلة بتوخي الحذر الشديد قبل التوجه إلى المغرب، وإن كان يفضّل أن يتم هذا اللقاء بعيدا عن أرض المغرب أو تونس.

وقد جاء في الكتاب أن بعض القرائن غير واضحة المعالم تُورّط المغرب، إلى جانب فرنسا، في اختطاف بن بلة، والتي لخصها في ثلاث قرائن هي:

1- تجنيب مرافقة الملك محمد الخامس لبن بلة وقادة الثورة الجزائرية في طائرة واحدة للسفر إلى تونس، لتُخصص لهم طائرة ثانية لم تكن مقررة في برنامج السفر، مصحوبين بعدد من الصحافيين المغاربة والأجانب فقط، وفي غياب مسؤولين من مستوى عال رُفقتهم؛

2 – تأجيل سفر الطائرة المخصصة لقادة الثورة الجزائرية إلى ما بعد إقلاع طائرة الملك محمد الخامس، مع إعادة تبديل بعض أسماء ركاب الطائرتين، هذا التبديل الطارئ، الذي أخّر الرحلة الجوية ساعتين، اتضح في ما بعد أن الهدف منها -كما أورد الكتاب- هو إعطاء فرصة كافية لتفادي حدوث أي لبس ما بين طائرة الملك والطائرة المراد اختطافها؛

3- الاستعدادات والتجهيزات المسبقة التي تمّت في مطار الجزائر موازاة مع انطلاق الطائرتين من الرباط إلى تونس العاصمة، والتي لم يكن ممكنا إعدادها بصورة عاجلة من جانب السلطات الفرنسية في الجزائر وحدها، ما يؤكد – حسب الكتاب- التدبير المشترك بين الفرنسيين وبعض رجالهم الموثوق فيهم في المغرب.

الرواية المغربية

بالنسبة إلى الرواية المغربية التي تخصّ حادث اختطاف بن بلة ورفاقه فقد جاءت وضّح تفاصيلَها الملك الراحل الحسن الثاني، الذي خصّ بها الكاتب الفرنسي إريك لوران في حوار صحافي جرى بينهما في 1993، حين قال إنه “كان، قبل أسابيع من حادثة اختطاف بن بلة في باريس، بصدد التفاوض مع الحكومة الفرنسية في موضوع رجوع وإدماج الرجال بأسلحتهم في القوات المسلحة الملكية، ويتناقش مباشرة مع غي مولي، رئيس للحكومة، وماكس لوجون، وزير الدفاع”.

“حين رصدت الرادارات الفرنسية الطائرة المغربية التي كانت تقل بن بلة ورفاقه” يقول الحسن الثاني، “كان ماكس لوجون هو الذي أصدر الأمر باختطافها، وهو الذي غطى العملية سياسيا. وبمجرد ما علم الملك محمد الخامس بالخبر اتصل هاتفيا من تونس بالرئيس كوتي قائلا له بحدة: سيدي الرئيس، أبعث لكم بولدَي الاثنين كفدية على أن تعيدوا إلي بن بلة ورفاقه، فهم ضيوفي!”..

وعن سؤال بخصوص مواصلة الملك محمد الخامس الجهود لتحرير بن بلة ورفاقه، أجاب الحسن الثاني: “نعم، لقد بذل والدي كل الجهود وأرسل مبعوثين لهذا الغرض، ثم وفدا وزاريا بعد ذلك. وقد نصحه الوزراء المغاربة بقطع العلاقات مع فرنسا واستدعاء السفيرين، قبل أن يُجيبهم بحكمة بأنه في حال قطع هذه العلاقات اليوم فلا بد من استأنافها مجددا في يوم من الأيام، ويطلب منهم التفكير في حلّ وسط ملائم للطرفين معا، ليصدر أوامره لسفير المغرب في فرنسا لكي يتحمل مسؤولية الاعتناء بالمختطَفين الجزائريين في فرنسا، إذ كان يتفقدهم يوميا ويزودهم بالكتب والصحف والملابس، بل ويؤمّن حلاقتهم أيضا!”..

الرواية الفرنسية

أتت الروايات الفرنسية في قضية اختطاف زعيم الثورة الجزائرية بن بلة مختلفة ومتفاوتة التفاصيل، إلا أنها صبّت في بوثقة واحدة تقريبا، وأجمعت كلها على أن اضطرار فرنسا إلى فتح مفاوضات منح الاستقلال لكل من المغرب وتونس اللذين حصلا عليه في 1956، قابله إصرار بالغ على الاحتفاظ بالجزائر كمقاطعة تابعة للتراب الفرنسي، خاصة بعد فقدانها العديد من مستعمراتها، كمنطقة الهند الصينية، التي غادرها آخر جندي فرنسي بعد معركة “ديان بيان فو” في 1954.

في حوار للسياسي الفرنسي آلان سافاري (Alain Savary) أجراه مع صحافة بلاده في 1972، أكد أنه “في مرحلة مصر الناصرية، التي رمت بثقلها في نصرة القضية الجزائرية عبر الاحتضان السياسي واستضافت قادة الثورة التحررية، ثم تدريب عدد من قيادتها وضباط الثورة الجزائرية في المعسكرات المصرية خاصة في معسكر أنشاص، الواقع على بعد 40 كيلومترا عن القاهرة، تم فيها دعمهم ماديا، عبر مد الثورة بالعتاد والسلاح. كما اعتُبرت عملية تسليح وحدات جيش التحرير الوطني الجزائري في مرحلة الثورة التحررية معضلة عويصة لقيادة الثورة في الخارج وتحديا حقيقيا لمدى فعالية، بل واستمرارية الثورة، إلى درجة أن قائد الولاية الخامسة، محمد العربي بن مهيدي، اختزل توصيف الوضعية التي كانت عليها الثورة لمحمد بوضياف في لقاء بالقرب واد ملوية في مارس 1955 بقوله «السلاح وإلا اختنقنا!»..

وفي هذا الإطار توالت عمليات التزويد بالأسلحة، لا سيما شحنات الأسلحة الكبيرة القادمة من المشرق عبر البواخر الملاحية، والتي رست بالشواطئ الشرقية للمغرب، ولعل أشهرها ثلاث سفن هي «انتصار» و«دينا» و«أتوس». وأمام هذا التهديد المتنامي للوجود الفرنسي في الجزائر، قررت الاستخبارات الفرنسية اختطاف الزعماء الجزائريين، محاوِلةً لجم الثورة وحلحلة زخمها، الذي استمد أمله في التحرر من استقلال المغرب وتونس.. فكانت زيارتهم للمغرب في طريقهم إلى تونس فرصة لفرنسا للتخلص منهم دفعة واحدة. غير أن أسْرهم إلى حدود 1962 لم يحل دون دخول الجزائر والاحتلال الفرنسي في صراع دامٍ أفضى إلى تحرير الجزائر في السنة نفسها التي أطلق فيها سراح بن بلة ورفاقه، وبعد 132 عاما من الاستعمار”.  

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *