عبد الرحيم هيري*

في زمن الفقد، نلتجيء إلى التاريخ السحيق، بحثا عن قُدوة ومَثَل نَحِنّ إليه.

كان قاضي القضاة وخطيب الجامع الأكبر “جامع الأمويين” في دمشق، العز بن عبدالسلام، يقول الحق ويحكم به، فغضب منه ملك البلاد، الصالح إسماعيل الأيوبي، الذي تحالَف مع الصليبيين لغزو مدينة القدس وضمّها إلى مملكته وغزو مصر التي، يحكمها عمه، نجم الدين أيوب.

أنكر العز بن عبد السلام هذا الأمر على السلطان من فوق المنبر وفي خطبة الجمعة، فعزله السلطان وسجنه، ولما احتجّ الناس، طرده!

أتى به حاكم مصر ونصّبه قاضيا للقضاة (مفتيا ووزيرا للعدل والشؤون الإسلامية) فوجد أن المناصب العليا كلها بيد المماليك (وهم عبيد عينهم الملك في مناصب عليا في الإدارة والجيش) فأصبحوا أمراء في الدولة يعيثون فيها فسادا.

أصدر فتواه للملك نجم الدين أيوب القاضية بأن العبيد يجب أن يُعزلوا من مناصبهم ويباعوا في السوق، وثمنهم يدخل إلى بيت مال المسلمين (خزينة الدولة). وبعد بيعهم، إن أراد الملك توظيفهم فما عليه إلا أن يشتريهم من ماله وليس من مال الدولة ويُدفع إلى بيت مال المسلمين.. وهكذا يتم ضخ السيولة في خزينة الدولة دون اللجوء إلى الشعب.

غضب الملك، فعزل القاضي نفسَه وخرج مهاجرا، فتبعه الناس في جموع غفيرة، على اختلاف مشاربهم، حتى لم يتبق أحد. فوصل الخبر إلى الملك، إذ قيل له إن يلحق العز بن عبد السلام، فالشعب كله تبعه ولن يبقى لك من تحكُم.  فقام وتبعه يسترضيه.

ولكي يعود، اشترط العزّ بن عبد السلام على ملك مصر أن يقبل بيع الأمراء المماليك، فقبل الملك وعاد القاضي.

وفُتح المزاد العلني لبيع من كان أميرا يحكم على الناس، ومن كان ضابطا في الجيش، ومن كان وزيرا… بحيث تم تجريدهم من كل امتيازاتهم وبيعوا في سوق العبيد إذلالا لهم ولفسادهم وعدم اهتمامهم بشؤون الرّعية.

فكم من مزاد علني يلزمنا اليوم لنتحرر من عديمي الكفاءات؟ 

لكن قبل ذلك، يلزم أمّهاتنا أن تلدنَ “عِزّا” آخر لهذا الزمن.

***

*كاتب وفاعل جمعوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *