عبد الرزاق بوتمزار

ح. 118

كأنّ الحكاية لا تريد تُفارقُني!

إلى “عْدْستي” جلستُ، أضع آخر التعديلات. قد صار لي جهاز جديد. حاسوبي (المْشقوفْ) أصبح ينتمي إلى الماضي؛ لحِقَ بالقلم والورقة..

اليوم الأخير في المعرض الدّولي للكتاب، في دورته الـ21؛ تهالكتُ على أقرب كرسيّ شاغر في أحد مقاهي الفضاء، بعد جولة مُتعبة بين أروقة مُلتهبة، واليد ترتَدّ من الجيب هازئةً من إفلاس مُكابر. كنتُ لأبحثَ عن بداية لحكاية جديدة (لو كنتُ انتهيتُ -كما خطـّطتُ- من نشر كتابي وإيجاد مكان له بين كلّ هذه الرّفوف) فإذا بي ما زلتُ أبحث عن نهاية للحكاية السّابقة؛ ما زال الضّائع الطـّيبُ فيّ على حاله من نحسٍ مُلازم.

ويُحكى أنّ الطيّبَ كان مشغولَ البال بدُيون مُتراكمة تأبى أن تَمّحي؛ وكيف لها ذلك والرّاتبُ يكفي بالكاد لسدّ المُتطلَّبات الآنية، إِنْ حضر “عُمَرُ” في موعده؛ فما بالُك وموعدُه مغربي: لا مُشكلَ لديه في أن يحضر في حينه أو بعد أمَد، والأزمنةُ أزمةٌ، والأزمةُ أزمات.

سارت الأمور بسرعة في هذه الحكاية ما قبل الأخيرة؛ أليس كذلك صديقاتي، أصدقائي (الدّراري)؟! ربّما، لكنّ الطيّب ما زال يجد سيْرَ الحياة بطيئاً حدّ الاشتباه في أنّ مُؤامَرة تُحاكُ ضدّه؛ خمسٌ وعشرون سنة مرّتْ، عدّ خلالها الشّهور والسّاعات والدّقائق والثواني من أجل هدف واحد، أزَليّ: أن يقول حكايتَه.. كثيرون نشروا وصاروا كتّابا وشُعراء؛ وكثيراتٌ صِرْن كاتبات بعد أن نشرْن، وشاعراتٍ صارت أخريات. آخَرون ما كتبوا وما نشروا إلا خربشات مُبتدئة، بل مُبتذلة أحيانا ونشرْن و(اعتقدوا أنْ قد) صارُوا كتّابا وشعراء و(اعتقدن أنْ قد) صرْن شاعرات وصرن كاتبات. وأنت، يا “الدّمْدومة”، تُواصل، منذ شهور وسنوات، إطفاء ما تبقى من بريق العينين وعناد الجسد ومُقاوَمة الذات في سبيل مكتوبك الأول بالكاد؛ ألا تسمع كلّ هذه الجعجعة الصّاخبة، هنا وهناك، أشعارا وروايات ونقوداً؟! ألا تسمع وتقرأ وتشاهد مَن ينشر، بين كلّ حين وحين، رواية أو مجموعة أقاصيص ومَن، بين كلّ حين وحين، تنشر ديواناً أو أضمومة؟ ألا تريد أن تُدرك أنّ الأزمنة متسارعة وأنّ العبرة بالكمّ وليس بكَيفِك، الذي يَلزمُك من الوقت لتكييفه كما تشتهي ما يحتاج غيرُك لتدبيج أسفار وأسفار؟!

لكنْ لا، يقول الطيّب في وجه مثل هذه التساؤلات؛ يطردها من ذهنه ما إِنْ تبدأ في إعلان نفسها. قد يطرحُها أحدُهم في نقاش معه. يصمت لحظةً، ثمّ يقول بنبرة الواثق: هل تُبرّر هذه المنشورات ولو كمّيات المداد التي أُهرِقت من أجل طبعها، كلَّ الأشجار التي اجتُثّتْ كي تُوفّر لها أوراقا، كلّ الدراهم التي صُرفت من أجل اقتنائها، وكلّ الوقت الذي ضاع في قراءتها، والعصرُ عصرُ عُزوف (يقولون) عن القراءة ككلّ، فما بالُك بما عربدتْ على صهوة حُروفِه الرّداءة؟! ما جدوى نشر كتاب لن يقرأه أحد؟ ألا يجدر بكثير من كُتّابنا -الفطاحل- وشاعراتنا -دام لهنّ الألق- أن يحرصوا، لأطول وقت ممكن، على عادة القراءة ولا يُهملوها وهم يقترفون عادة الكتابة؟!…

في خلوة ما، في مكان ما، يجلس الطيّب ويفتح كتابا؛ قد يكون قريضا أو نثرا؛ روايةً قد يكون أو مسرحية؛ نقدا أو دراسة. هنا (قد) تبدأ لعبة مُسلّية رافقته طويلاً. لعبةُ كَرّ على الرّداءة، في شتى صورها وتجلياتها، في مكتوب في صيغته النهائية، التي ليس بعدها -مع الأسف- كثيرٌ ممّا يمكن فعله. لكنّ الطيّب يجد متعة خاصّة في مُلاحَقة هذه الهفوات والسّقطات على امتداد النصّ المكتوب، حتى وقد صار بين يديه مطبوعا وما عاد باليد حيلة للفعل فيه، لإعادة تشكيله. لم يترك كتاباً ولا صحيفة، مجلة ولا دورية ممّا يقع بين يديه دون أن يخلط مدادها الأسود بمداد قلمه الأحمر، ولو في خياله، وهو يقرأ من أجل المطالعة فقط. هل كان حُلمُ الطيّب أن يكتُب حكايته أم حكايا الآخَرين في صيغة أخرى، في صيغته التي يجدها الأنسبَ؟! رحلة طويلة امتدّت به في قراءة ما خط الآخرون وتدقيقه وتمحيصه حتى صار لا يُفرّق بين ما خط وما خطّوا؛ يريد للجميع أن يكون في أبهى حُلّة؛ وفي أبهى حُلّة خرج إلى الوجود بعضُ ما قرأ وفي ما دون البهاء الذي يرجو خرج البعض؛ لكنّ مكتوبَه هو ظلّ يراوح مكانه. ما أتعسَك لو اجتمع فيك هوى هوايتين من عائلة واحدة، الكتابة والنّشر!.. لكنّ الجنونَ الحقيقي بالنسبة إلى الطيّب هو أن يجدَ نَفْسَه أمام مطبوع يُفقدُه لذة القراءة منذ صفحاته الأولى، منذ السطور الأولى..

قدَرٌ أحمقُ ومجنونٌ قدَرُك إنْ هو حكم عليك بأن تقرأ كتابا لا يحترم مؤلفه “النّحريرُ” أبسط قواعد المكتوب، ولو في المُستوَيات الدُّنْيَا من التطلب؛ فبالأحرى أن يُكنّ عميقَ ودّ لشروط الفنّ ولأسُسه وجمالياته؛ ظل الطيّب يقول لنفسه في خلواته رفقة هذا المطبوع أو ذاك. جُمَلٌ جوفاءُ مرصوصة كيفما اتّفق وتعبيرات؛ حُروف تُكوّن كلماتٍ بلا رُوح تقول اللاشيء؛ عبثٌ عابثٌ تَمكّن من المشهد وسيطر على السّاحة منذ أمد. لا صنعةَ ولا صناعة؛ لا حبكة ولا صورة شعرية؛ لا لمسة فنية ولا تمثّلاً لرائدِ؛ لتيارٍ أو لمَدرسة، ولا اشتغالا من أجل رسالة أو ترسيخ منهج.. هذا حالُ كثير من منشوراتنا؛ فماذا تفعل كثيرٌ من المكاتيب بين الرّفوف وبين أيدي قرّاء مُفترَضين؟! بأيّ ذنب يُؤاخَذ قارئ دفَع من جيبه ثمنَ حصّة تعذيبٍ باسم المفترى عليه: الأدَب؟ كيف السّبيل إلى وقف مدّ الرّداءة، الذي طمر حدائق الحَرْف اليانع وشواطئَ الكلمة القوية والواثقة؟..

مؤسِفٌ أنّ كثيرا من “الإبداعات”صارت تُشكّل حصّةَ عذاب ما فوقه عذاب! لكنّنا شعوبٌ اعتادت المُجامَلات وكَيْلَ المديح حتى في ميادينَ لا تحتمل رياء أو مُجامَلة، كما ميدان الأدب.

كثيرون -مثل الطّيب- وكثيرات اكتفوا بمرُاقَبة المشهد ساخِرين مِن هذه المكاتيب. ما أردأٓ أزمنةَ أدب يَسخَر فيها قارئٌ من كاتب وشاعر أو من شاعرة وكاتبة.. سخريةُ أقدار، لا محالة؛ فالمألوف والسّائد أنّ الكاتبَ هو مَن يُوصَف بأنّ له بُرجاً عاجيا يُطلّ منه على الآخَرين وعلى عالَم الآخَرين. لكنّ الطيّب يعرف أنّ كثيرين ليسوا كُتّابا ولا شعراءَ وأنّ كثيرات لسن كاتبات ولا هُنّ شاعرات. ومِثلَ الطيّب كثيرون يعرفون؛ لكنّ ديناصورات الأزمنة السّحيقة لم تكن تعرف ولا هي تريد أن تعرف أنّ العجلة تسير إلى أمام؛ نحو أزمنة جديدة والعالَم إلكترون، شفـّاف وواضح؛ لا يقبل -في سراديب الحانات الرّخيصة والكواليس المُظلمة لصالونات مشبوهة- كؤوسَ قهوة ولا نبيذ، راقٍ أو رخيص، حسب قيمة نفْس البائع والمُشتري، من أجل تدبيج مقالاتِ المديح الخالية من أيّ لمسة نقد بناء أو تأثير تيار، فكري أو أدبي، إلا ما كان من صميم المُجامَلة والتودّد الخادع، مدفوعِ الأجر، نقداً أو خدمة، علنية أو على أسرّة اللذات المسروقة. لكنْ لا، وألفُ لا، هذي أزمنة أخرى؛ ولو لم تُدركْ قبائلُ آلِ الماموث أنْ قد حان وقتُ التّغيير، وقتُ كنس الخرائط القديمة الملغومة لصناعة الأَدَب والفكر. قد هبّت ثورة الإلكترون؛ تَكسر عظامَ التماثيل المُحنَّطة، المخدوعة، وقد كانت تخال نفسَها الخادعة. انسحقت عظامُ المُومياءات وسقطت أصنامُ عصور التّواطؤات والتّوافقات المخدومة؛ لاحتْ في أفق القراءة أصواتٌ اختارت لها الأصنامُ الأزلية الهامشَ مصيراً؛ لكنّ الغلبةَ انتهتْ للكلمة على حساب المُتكلم؛ وكم أزعجت الأصواتُ الجديدة والمُجدّدة أعشاشَ الدّبابير التي ظلت مُستبدّة بمشهدٍ ثقافي لولا رجّة المُحدَثين لجسده المنخور، بفضل ثورة الإلكترون، لرُبّما خانته أنفاسُ الحياة.

كم “جُحا”، الآن هنا، في هذا الفضاء المنذور للثقافة، لا يفعل أكثرَ من النّصب على ضحايا مُحتمَلين؟ كم من نخّاسِي ثقافة مشبوهة يسيرون وسطنا، بين هذي الأروقة؟ وكم من تجار مُتنكّرين في مُسوح مثقـّفين، وكم تاجرات؟! رحتُ أسألُني، وأنا أواصل جولتي المُتعبة، واليد ترتَدّ من الجيب، كلَّ حين، أمام عنوان مُوحٍ ومُغرٍ، هازئةً من إفلاسٍ مُكابر.

وحيداً سرتُ بين أروقة المعرض؛ كرنفالٌ من الكتب والأسفار والمُجلَّدات. أدخَلتُ يَدِي للمرّة الألف في جيبي فارتدّتْ إليَّ ضاحكةً من إفلاس يُكابر. فلأكتفِ اليوم، إذن، بالمُشاهَدة؛ قال لي الطيّبُ فيّ، وهو يتحاشى ما أمكنه التّدقيقَ في العناوين. يعرف/ أعرف أنّني لا أستطيع أن أقرأ عنواناً يُحرّكني دون أن أمدّ يدي إلى جيبي؛ لكنْ ما العمل واليدُ تَرتدّ من الجيب كلّ مرّة ساخرة مـن إفلاس يُكابر!

حسرتان في القلب وفي الحلق غصّات: كـُلّ العناوين المُتخيَّلة قد تجدها هنا ما عدا عنوان واحد: “أضاعُونِي”.. ثمّ إنّ الجيبَ فارغ منذ مدّة تـُصفّر فيه الرّيح. كنتُ أنوي أن أطبع الكتابَ قبل بداية المعرض؛ وربّما بعد بدايته بأيّام؛ لكنّ أقداري المجنونة أبتْ إلا أن تتكرّم عليّ بنكبةٍ/ نُكتة إضافية صرفتْ تفكيري في طبع الكتاب وعرضه في الدورة الواحدة والعشرين للمعرض الدّولي إلى مُجرّد الانشغال، بالنهار كما بالليل، بهاجس تدبّرِ ثمن فاتورة الماء والكهرباء السّمينة، التي تنتظر منذ أشهر، ثمنِ واجبات شهرَين مُتتالييْن من الإيجار وواجبات “طاطا حنانْ”، مُدرّسة إلياس، وَ”طاطتَيْ” مهدي، اللـّتين أنساني إلحاح الأولى في طلب أجرتِها أن أسأل عن اسمَيهما؛ وفوق هذا كله توفير لقمة اليوم، والمدينةُ غولٌ وشبحُ البطالة قد عاد يتربّص بالآفاق.

لا تُرِيد الأحداثُ والوقائع أن تكـُفّ عن التشكـّل والتّراكم؛ كأني بالحكاية ترفض أن أضع لها نهاية. ومَن يدري، قد تَكون البدايةَ فقط؛ بداية حكاية مُجاز “حلمَ” بكبير الأماني قبل أن “يصحو” داخل دكّان منسيّ خلف لافتة مكتوب عليها “كاتب عمومي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *