عبد الرزاق بوتمزار

ح. 117

وتغيّرت الأزمنةُ والإملاءات!

نسيتُ أمر الأوراق التي ضمّت العشرين حلقة الأولى التي تركتُ بالأمس بين يدَي مُدير النّشر. قلتُ لنفسي لديك مُتّسع من الوقت، كافٍ، لأن تسترجعَ الأنفاسَ وبدايات لحكايا جديدة. ريثما يجد وقتا لقراءتها ويُقرّر في مصيرها، انشغلْ بالمكتوب اليومي؛ أدّ الوظيفة التي من أجلها أنتَ هُنا، وبفضلها تقف أمام شباك البنك في نهاية كلّ شهر. 

لكنْ كبيرةً كانت مُفاجَأتي: ما إنْ انتهيتُ من تناوُل وجبة فطوري في صباح اليوم المُوالي حتى جاءني.

-طلب مني رشيد أن أسألك عن حلقاتٍ لديك للنّشر.

قال، وهو يتطلع إلى الورقة المُخربَشة أحمرَ أمامي. (هل قرأها في هذه المدّة القياسية؟).. سألتُني وأنا أصابُ، فجأة، ببعضِ التّواضع (وفي رواية أخرى الغرور، كما تشتهي خيالاتكم الشّرّيرة!).. ثمّ خطر لي: هل أعجبته يومياتي إلى الحدّ الذي لم يترُكها إلا بعد أن أنهى قراءتها في الليلة نفسِها؟ وحتى لو لمْ يقرأها كلـَّها، فلا شكّ في أنه وجد بين سطورِها ما جعله يُقرّر نشرها. (مُهمّاً صرتَ، إذن، أيّها الكاتب العُموميّ؛ ستعرفُ نصوصُك طريقها إلى صفحاتِ جريدة المغاربة الأولى).

لمْ يتركني أسرح بعيداً. أعادَني بسرعة من تخيّلاتي:

-من فضلك، ضعْ الحلقة الأولى من اليوميات في الملفّ المُشترَك، ستُنشَر في عدد الغد.

حضر، بعدَه، سكرتير التّحرير وجدّدَ الطلب، فأيقنتُ أنّني “ضائعٌ” في نسخة اليومِ المُوالي، لا محالة.

كانتْ تلك قصّة هذه الأوراق في بداياتها. نُشرتْ في صفحة فوروم؛ حيث وجدتْ زاوية ضيّقة شاغرة في صفحة داخلية. فليكنْ، خاطبتُني في نشوة؛ لقد تحققتْ لي بداية أخرى، حياة رمزية جديدة بين قبيلة الكتـّاب الذين يُسوّدون صفحات الصحف في وطن غيرِ قارئ..

صرتُ مُطالَبا بتحرير حوالي 400 كلمة كلّ ليلة قبل أن أخلد إلى النوم. كانتِ الحلقات تُنشَر بمُعدّل خمس مرّات في الأسبوع. في السّبعة أيام المُوالية، لم يتبقّ في الدّفعة الأولى غير خمسة عشر ورقة. توَجّبَ عليّ أن أرفع إيقاع الاسترجاع.

ولم تبخلْ عليَ الذاكرة المكدودة حكايا وتخيّلات ومواقفَ وشخوصا. كنتُ قد جاوزتُ مرحلة الشّكّ: البداية. وكما أسلفت، كانت المدّة التي أمضيتها وأنا أرسم ملامح هذه الشّخصية وأمحو تلك الحادثة، أعدّل هذه الفقرة أو أضيف إلى جملة، أطولَ من مدّة كتابتي العشرين ورقة الأولى من هذه “السّيرة”. الآن، إنْ هيّ إلا ساعة، أنزوي فيها إلى سرير أعزلَ في مدينة باردة حتى يتوارد الحكي (وفي رواية أخرى القصّ) في مُوحشِ الليالي، ترسُمه صوراً شهرزادُ حزينة وتخطه الأناملُ على الورق كلماتٍ فجملاً ففقرات.

ثمّ، حين أتيحتْ أوّل فرصة تخلصتُ من الأوراق والأقلام. أعدْتها، في الحقيقة، إلى مكانها الطبيعي؛ فهي عندي، منذ عشر سنوات أو يفوق، قد صارتْ جزءاً من الماضي..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *