لنتحدث بصراحة: حين يصبح الحكم الذاتي الذي ترفضه الجزائر اليوم، هو ذاته الذي تبنته واشنطن ومدريد وباريس ولندن، بل وتتعامل به منظمات دولية بشكل عملي، فماذا تبقى من حجج الرفض؟.
*ميمونة الحاج داهي
لا أعرف إن كان الجميع شعر بما شعرت حين قرأت بيان الخارجية الجزائرية الصادر أمس فاتح يونيو، لقد شعرت أن الدولة تنزف موقفا، و تُخرج ما في صدرها من قهر سياسي تراكم على مدى عقود.
البيان كله بدا وكأنه نُشر ليصرخ: أوقفوا هذا العالم، الجزائر تريد أن تنزل..
في لحظة ما، ينسى السياسي أنه يتحدث إلى جمهور خارجي، فيبدأ يخاطب نفسه، يبرر لها، يعاتبها، يُكابر أحياناً، ويُبكيها أحياناً أخرى.
هذا بالضبط ما فعله البيان الجزائري: خطاب موجّه للعالم على الورق، لكنه في العمق حديث داخلي مشحون بالمرارة، موجه إلى شعب أنهكته العزلة، وسياسيين يدورون في حلقة مفرغة، ونظام لا يعرف كيف يخرج من سردية نسجها بنفسه ثم علق داخلها.
يقول البيان، بالحرف، إن الجزائر تأسف على دعم المملكة المتحدة لمقترح الحكم الذاتي المغربي. وأقف هنا، وأسأل، كما قد يسأل أي شخص عاقل: هل “الأسف” يكفي دولة لم تفهم بعد أن العالم لا ينتظر من يتأخر عن الركب؟ .
هل المطلوب من الدول الكبرى أن تبقى في وضعية انتظار حتى تُنهي الجزائر مراجعتها الذاتية؟.
ثم لنتحدث بصراحة: حين يصبح الحكم الذاتي الذي ترفضه الجزائر اليوم، هو ذاته الذي تبنته واشنطن ومدريد وباريس ولندن، بل وتتعامل به منظمات دولية بشكل عملي، فماذا تبقى من حجج الرفض؟.
ما الجدوى من بيانات تُوزّع على الصحافة بينما الحقائق تُنسج على الأرض، خطوة بخطوة، بإجماع شبه عالمي؟.
الأكثر إدهاشاً في البيان، هو تلك الفقرة التي تقول إن المملكة المتحدة لم تعترف للسيادة المغربية على الصحراء.
حسناً، دعونا لا نضحك على بعضنا: هل تنتظر الجزائر أن تكتب لندن نصاً بصيغة “نُعلن الاعتراف الرسمي الكامل”، كما لو أن العالم يشتغل بمنطق المحاكمات اللفظية؟ .
الدعم السياسي لا يُقاس بالحروف، بل بالمواقف والمصالح، وهذه واضحة جداً.
البيان الجزائري يُصِر على التذكير بأن “المنطقة غير متمتعة بالحكم الذاتي”، وبأن المملكة المتحدة وقفت في صف تقرير المصير.
لكن من يتابع الدينامية الدولية اليوم، يفهم أن المفهوم التقليدي لتقرير المصير تغيّر، وأن الحكم الذاتي، بصيغته المغربية، لم يعد مجرد مقترح، بل بات يُعامل كحلّ سياسي واقعي وممكن. والجزائر، بكل صراحة، خارج هذا المنطق.
وهنا نصل إلى سؤال محرج: كيف لدولة بحجم الجزائر، وإمكانياتها، وموقعها، أن تختار أن تُقزم دورها الإقليمي بالتمسك بملف يزداد عزلة؟.
هل يُعقل أن ترفض الجزائر أي مشروع اندماج مغاربي فقط لأنها لا تستطيع أن ترى الصحراء مغربية؟.
بأي منطق تبني دولة سياساتها الخارجية على العناد بدل البراغماتية؟.
ومنذ متى كانت شرعية الدول تُمنح عبر بيانات الإنكار؟.
أكثر من ذلك، الجزائر لا تبدو فقط وكأنها ضد المغرب، بل ضد فكرة الاتحاد نفسه.
كلما اقتربت الدول من بعضها، اختارت هي أن تبتعد.
كلما ظهرت فرصة للتنسيق، أغلقت الباب. وكأنها تعتقد أن العزلة بطولة، وأن المقاومة الدبلوماسية نوع من “الجهاد السياسي”، بينما الحقيقة أن العالم تغيّر، وأن من لا يسايره، يُستبدل.
هل تبون ينزف قهرا؟ ربما.
هل الدولة الجزائرية تعيش لحظة اعتراف مرير؟ الأغلب نعم.
لكن الأهم: هل تمتلك هذه الدولة ما يكفي من الذكاء لتقول لنفسها: لقد أخطأنا، وحان وقت الترميم؟.
أشك.
*كاتبة سياسية