بالنسبة لعبد العالي بريكي، فإن فن الملحون ليس مجرد أشعار شعبية تُغنى على أنغام العود والكمان، وصيانته واجب مقدس، يتمثل في الحفاظ على الذاكرة الجماعية للمغاربة وتخليد تراث ثقافي يعكس التجارب الإنسانية والاجتماعية لشعب بأكمله.
إدريس هاشمي
الرشيدية – في تافيلالت، لا تزال القصائد الخالدة للملحون وألحانها الشجية تتردد في أرجاء هذه المنطقة الغنية بالتاريخ، والتي تعد مهدا لفن عريق يفتخر به جميع المغاربة.
ففي هذه الربوع الزاخرة بالأصوات الجميلة التي تبشر بمستقبل واعد لهذا الفن الأصيل، يبرز اسم عبد العالي بريكي، صوت أصيل يخاطب من خلال قصائد الملحون أعماق القلب وأسمى المشاعر الإنسانية.
في أداء ابن مدينة أرفود، ينبهر المتلقي بجمال الإيقاعات، ونبل القيم التي تنقلها القصائد، والحضور القوي فوق المنصة، والكلمات المعبرة التي تشكل مزيجاً متناسقاً ومدروساً بعناية.
شغف عبد العالي بريكي بالملحون يسري في عروقه منذ نعومة أظافره. ويستحضر قائلاً: “في سن السابعة، بدأت أشارك في الحفلات الفنية المدرسية التي تُنظم بمناسبة مختلف الأعياد الوطنية”.
ويتابع بريكي بنبرة يغمرها الفرح: “الشرارة التي أحدثت تحولاً كبيراً في حياتي كانت لقائي مع قامة فن الملحون، الحسين التولالي، الذي قدم إلى مرزوكة في رحلة استشفائية بالرمال”.
أُعجب التولالي بقدرات بريكي الصوتية، فدعاه للمشاركة في مسابقة وطنية لفن الملحون نظمت في مدينة مرزوكة.
يقول بريكي: “بعد هذه المسابقة، تمكنت من الفوز بالجائزة الأولى، وشكل ذلك مصدر سعادة كبيرة لعائلتي، وخصوصاً للأستاذ التولالي”.
بصوته المفعم بطاقة تمزج بين السكينة والحيوية، واصل بريكي مشاركاته في العديد من المهرجانات الفنية داخل المغرب وخارجه، سواء في أوروبا أو في العالم العربي.
وقد نقل هذا الفنان، البالغ من العمر 53 سنة، شغفه بالملحون لابنته هدى، التي أثبتت حضورها في هذا المجال بالموازاة مع دراستها، حيث شاركت بنجاح في مهرجانات كبرى لفن الملحون.
ويعتبر بريكي أن “الملحون أكثر من مجرد موسيقى، إنه ذاكرة جماعية لأمة بأكملها، وأسلوب حياة، ومرآة تعكس الانشغالات اليومية والتقاليد المحلية، ونداء لنشر قيم المحبة والتقاسم والسلام”.
ويؤكد الفنان الذي صنع لنفسه اسماً لامعاً في عالم الملحون بفضل موهبته وتفانيه أن “الملحون لا يزال بخير”، مشيراً إلى أن هذا التراث يحظى بعناية خاصة من طرف وزارة الثقافة وأكاديمية المملكة المغربية، التي حرصت على إصدار عشرات الدواوين بهدف الحفاظ عليه وضمان استمراريته.
كما لم يفت بريكي، رئيس جوق جمعية سجلماسة لفن الملحون بأرفود، أن يثمن إدراج فن الملحون ضمن قائمة التراث الثقافي اللامادي للإنسانية من قبل اليونسكو، خلال الدورة الثامنة عشرة للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي اللامادي التي انعقدت يوم 6 دجنبر 2023 في بوتسوانا.
ويقول: “لا شك أن الملحون ظل دائماً وسيظل يتردد صداه في ربوع المغرب”، مؤكداً أن هذا الاعتراف الأممي يشكل لحظة بارزة تترجم الجهود الكبيرة التي يبذلها المغرب في سبيل حماية وصون تراثه المادي واللامادي بمختلف تجلياته.
وبخصوص الدورة الثلاثين لملتقى سجلماسة لفن الملحون، التي اختُتمت نهاية الأسبوع الماضي، يرى بريكي أن هذا الحدث كان مناسبة لاكتشاف مواهب شابة ستحمل مشعل هذا الفن، قائلاً: “مستوى العروض، خاصة في المسابقة الخاصة بالفئة أقل من 18 سنة، يمنحنا الأمل ويطمئننا على مستقبل هذا الفن الغني بالدلالات النبيلة والنغمات الراقية”.
وأكد أيضاً أن هذه الدورة كانت فرصة لتكريم أسماء بارزة قدمت جهوداً كبرى من أجل إشعاع هذا الفن، من بينهم محمد بوزوبع، الحسين التولالي، مولاي إسماعيل العلوي السلسولي، عبد الكريم كنون، محمد بوستة، محمد العلمي وآخرون.
وبالنسبة لعبد العالي بريكي، فإن فن الملحون ليس مجرد أشعار شعبية تُغنى على أنغام العود والكمان، وصيانته واجب مقدس، يتمثل في الحفاظ على الذاكرة الجماعية للمغاربة وتخليد تراث ثقافي يعكس التجارب الإنسانية والاجتماعية لشعب بأكمله.