فاتح ماي يفضح، كل سنة، عجز النقابات على التعبئة الواسعة للطبقة الشغيلة للتعبير عن همومها ومشاكلها المتراكمة.

الرباط-جمال الريفي le12.ma

في فاتح ماي من كل سنة، تكشف احتفالات عيد العمال عن الواقع المزري للنقابات، الموسوم بالانقسامات، وغياب آليات الديمقراطية الداخلية، والحكامة، والشفافية في التدبير المالي والإداري.

وتفضح هذه المناسبة السنوية عجز النقابات عن تعبئة الطبقة الشغيلة بشكل واسع للتعبير عن همومها ومشاكلها المتراكمة؛ إذ بات حضورها يقتصر على الموالين والمقربين من القيادات، وعلى فئة ضيقة من النقابيين، بعدما كانت مظاهرات فاتح ماي تستقطب، إلى جانب العمال، التلاميذ والطلبة والموظفين وعموم المواطنين، الذين كانوا يتماهون مع العمل النقابي احتجاجاً على البؤس الاجتماعي و”الحكرة”.

لقد تحوّلت هذه المحطة التي كانت تصدح فيها حناجر الشغيلة ضد ظروفهم المعيشية القاسية، وغلاء المعيشة، وتجميد الأجور، إلى لحظة باهتة ورتيبة، في ظل تراجع الزخم النقابي وتنامي العزوف عن الانخراط فيه.

ويبدو هذا التراجع جلياً في حجم المشاركة في مسيرات فاتح ماي، التي فقدت بريقها وقوتها من حيث الحضور الجماهيري، وصدقية الشعارات المرفوعة، في سياق يتسم بترهّل وشيخوخة الزعامات، وتغوّل التوظيف السياسي والانتخابي والانتهازي للعمل النقابي.

يعيش العمل النقابي في المغرب حالة تشرذم واضحة، حيث يناهز عدد النقابات عشرين تنظيماً، وهو واقع لا يخدم الشغيلة ولا الوضع الاجتماعي، بل يعمّق معاناتهم ويكرّس فقدان الثقة في النقابات، التي لا تتجاوز نسبة الانتماء إليها 5%. ووفق معطيات المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2020، فإن 95.3% من المغاربة النشيطين لا ينتمون لأي تنظيم نقابي، وهو ما يؤشر على أزمة ثقة حقيقية تُضعف موقع الطبقة الشغيلة وتُحرمها من من يترافع عن قضاياها بشكل صادق وفعّال.

هذا التشظي والانقسام راكمته أسباب عدة، أبرزها تضارب المصالح، وتنامي الخلافات، وتباين المرجعيات الأيديولوجية، وتغوّل النزاعات الفئوية الضيقة، وهيمنة التوظيف الحزبي على الفعل النقابي.

ويُعزى هذا الوضع أيضاً إلى غياب الديمقراطية الداخلية، حيث يطغى الرأي الواحد، وتنفرد الزعامات المتقادمة باتخاذ القرار، في ظل غياب أجهزة منتخبة فاعلة، وعدم تفعيل مبدأ التداول على القيادة، إلى جانب الفساد المالي والإداري، ما أدى إلى إفراغ النقابات من مضمونها النضالي وتحويلها إلى أدوات لتحقيق مصالح خاصة.

كل ذلك دفع العديد من النقابيين النزهاء إلى الانسحاب من العمل النقابي، أو تأسيس تنظيمات جديدة، ما زاد من تشتت المشهد النقابي.

وتُعد هيمنة السياسي والحزبي على النقابي من أبرز العوامل التي ساهمت في تراجع أدوار النقابات، حيث ظل أداؤها مرتهناً بأجندات حزبية، ما حولها إلى أدوات للمزايدة والضغط، وكرّس هيمنة الزعيم النقابي الساعي إلى البقاء أطول مدة ممكنة على رأس الجهاز، بدل الدفاع عن حقوق العمال.

في كثير من الأحيان، لم يكن تأسيس النقابات استجابة لحاجيات الشغيلة، بل لتلبية رغبات حزبية ضيقة، مما أسقط العمل النقابي في براثن التوظيف الانتخابي بعيداً عن هموم الشغيلة.

أضعفت هذه الخلافات والانشقاقات أداء النقابات، كما حال طغيان البعد الحزبي دون قيام حركة نقابية موحدة وقوية قادرة على قيادة الفئات الهشة.

وبات العمل النقابي اليوم روتينياً، ومحصوراً في ملفات مطلبية ظرفية تُطرح في سياق الحوار الاجتماعي، دون رؤية شمولية للمسألة الاجتماعية.

ومن تبعات ضعف الأداء النقابي وغياب الصلابة في المواقف، برزت تنسيقيات مهنية خارج الإطار النقابي، باتت تزاحم النقابات، بل تتصدر المشهد الاحتجاجي، وتتحول إلى “الناطق الرسمي” باسم الشغيلة في مختلف القطاعات، ما يعكس أزمة عميقة في العمل النقابي.

وقد تجلى ذلك بوضوح خلال احتجاجات الأساتذة لموسم 2023-2024، التي امتدت لثلاثة أشهر، حيث غابت النقابات عن المشهد، تاركة المجال للتنسيقيات التي قادت الاحتجاجات، وفرضت نفسها على طاولة الحوار، ما اضطر الوزير السابق شكيب بنموسى إلى إشراكها في المفاوضات، قبل أن تتراجع الوزارة بدعوى غياب الصفة القانونية لهذه التنسيقيات.

لقد عرّت احتجاجات الأساتذة هشاشة التنظيم النقابي وضعفه، ومنحت مشروعية مضاعفة للتنسيقيات، ما يطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل العمل النقابي في المغرب.

وبات على النقابات اليوم خوض امتحان استعادة المصداقية وثقة الشغيلة، لأن استمرار التراجع قد يؤدي إلى انفلات الاحتجاجات، وانخراط قوى غير مؤطرة، بما قد يهدد التماسك الاجتماعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *