عبد الرزاق بوتمزار
ح. 103
وَضاعَ في التّاجر الشّاعرُ..
أن تجد نفسَك، بين عشيةٍ وضُحاها، تاجراً رغم أنف التّجارة؛ هذا ما حدث معي، ذاتَ مُرّاكش.. بين فكرة وفكرة، صرتُ تاجراً. كنتُ قد مرَرتُ بفترة من النقاهة البطالية امتدّت لديّ خلالها “التشوميرة” الاعتيادية مدّة أطولَ ممّا تحتمل أحلامي. نأتْ عن سقف آمالي خلالها فـُرصٌ، قفزتْ عالياً فوق سُور تـّطلّعاتي. كنتُ -بوعي أو بدونه- أريدها أن تمتدّ أطول فترة مُمكنة، تلك “التّشُوميرة”. ما فائدة العمل، كنتُ أردّد في أعماقي، إذا كان للعمل أربابٌ من عصور أخرى؟!
كانت مُجرَّد فكرة نطّت إلى الذهن فجأة. اقترحتُها وقبلها التّاجر الحقيقيّ، الذي خبر دروب التّجارة. أمّا أنا فقلتُ لنفسي فقط: لِم لا أجرّب! وجرّبتُ أن أكون تاجراً؛ وإنْ كانوا، حتى تلك اللحظة، يُلقبونَني بـ”الشّاعـرْ”..
كان صهري التّاجر، وهو يُشجّعني ويساعدني، مادّياً على الخصوص، على فتح دكاني يتوقع مني أيَّ حرفة غيرَ التي سأقترح. ظلَّ، لفترة طويلة، في ما بعدُ، يُحاول أن يُقنعني بأنّ البيضَ أجدى تجارةً في البلد من الثقافة! كنتُ مُتشبّثاً بفتح مكتبة وكان يُريدني أن أبيع بَيضَ الدّجاج بالتقسيط.
كانت تلك نقطةَ الخلاف الجوهرية بيني وبين صهرٍ لم يكن يُريدني، وهو يمُدّ لي يد المُساعَدة، أن أضيع، كما كان يقول. تأسّفتُ، باستمرار، لكوني، بكلّ قْرايتي وبشهادتَيَ الجامعيتيْن، عجزتُ عن إيجاد وظيفْ يُناسبني وعجزتُ عن تفادي هذه الجملة التي سمعتُها منه ومن غيره كثيراً “ما بْغيتكشّ تضيعْ”.. (أسيدي غير خْليني نْضِيعْ ونْشِيعْ كاعْ؛ إلى كان غيرْ نبيعْ البيضْ راني ما بايْعوشّ).. كنتُ أردّد في أعماقي، كلما سمعتُ لازمة صهري.
كنتُ قد أدركتُ أنّ خيارَ الوظيف خرج، إلى غيرِ رجعة، من خُططي. لم يكن يعرف أنّني، بدوري، أتأسّف لضياع كلّ قرايتي هباءً، “بْلا ما نخشي راسي مع الدّولة”، بتعبيره. سقطتْ وظيفة الدّولة من حساباتي، لو تدري، بعد خيباتِ امتحاناتٍ غير معدودة لم نكن نعرف مَن ينجحون فيها ولا كيف يفعلون، وبعضهُم ينجحُون دون تشريف مُنظميها ولو بمُجرَّد حضور المباراة!
حين أيقنَ أنّي مُصرّ على المُضيّ قدُماً في مشروع المكتبة، تَراجَع إلى الخلف، نحو آلته، التي تُوزّع الغازوال على درّاجات النّواحي؛ وراح يُراقب خطواتي الأولى على درب التّجارة غيرِ المُربحة، في نظره، التي اخترتها ضدّا على كلّ خِبرته في الميدان. يا لَسُخريةِ القدَر، كنتُ أردّد بيني وبين نفسي، شامتاً ممّا آلَ إليه واقعي: أبيعُ البيض؟ أنـا!؟
كانت أولى خطواتي في محلي الصّغير أنْ هدمتُ حائطا قصيراً خلّفَه الخياط الذي كان يستغل الدّكان من قبلُ. تدبّرتُ فأساً وشرعتُ أضرب ما تبقى من واجهة المُكتري السّابق، كأيِّ مُتعلمٍ لا يريد أن يبقى أسيرَ بُرجه العالي، فتواضَعَ للتّراب المُتطاير من الجدار الصّغير. تظاهرتُ بعدم الاهتمام بالمارّة الذين كانوا يَعبُرون بمحاذاة المكان وهم يتفحّصونني بنظراتهم المُتسائِلة، من تراه يكون هذا الشّخص؟ وماذا سيبيعُ في الدّكان؟
حين انتهيتُ، أخيراً، إلى تسوية الحائط القصير بالأرض، تخلصتُ من بقايا الأتربة والإسمنت ونظفتُ المحلّ ومُحيطه جيداً. كان صهري يقيم في البيت الكبير الذي يتفرّع عنواجهته المحلاّن. مسموحٌ لي بارتياد المنزل في أيِّ وقت أشاء. كان منزلَ شقيقتي؛ تقطن هناك رفقة عائلة كبيرة تفرّعتْ من نسل إخوة زوجها الكثيرين. ملأتُ سطلاً من الماء من أقرب صنبور إلى باب المنزل ونظفتُ متجري الصّغير. رششتُ محيط المكان وكنستُ آخرَ بقايا الأتربة. وضعتُ كرسيا بلاستيكياً في زاويّة الدّكان وجلستُ أراقبُ الشّارع، وذهني شاردٌ إلى أبعدَ بكثيرٍ من حائط الثانوية المُقابِل.
كانت أطياف المارّين تعبُر أمامي وأنا غارقٌ في تفكيري الجامح. رتّبتُ الخطوات المُوالية التي تنتظرني، وأنا لا أكاد أشعر بكلّ الحركة التي يعجّ بها الممرّ قبالتي. عليّ الآن تدبّرُ أمرِ آلةٍ ناسخة وجهاز حاسوب. لمْ يكن لديّ المالُ الكافي لكلّ تلك المُقتنَيات، أعرف؛ لكنّ صهري العزيزَ كان مُستعدّاً للتضحيّة معي، وإنْ كان غيرَ كثيرِ اقتناعٍ بفكرتي، الشّاعرة أكثرَ ممّا تستطيع فهمَه عقليّتُه التّاجرة.
حوالي التاسعة ليلا؛ لم يعد هناك إلا بعضُ رواد السّوق الشّعبي القريبوزبائن صهري ممّن يريدون أن يملؤوا خزّانات درّاجاتهم بـ”البترول” أو يُصلحوا عطباً ما فيها. ودّعته وسرتُ في اتّجاه المقهى، حيث اعتدتُ على تزجيّة وقتي الفائض. هُناك، أمضيتُ ساعتي الاعتياديةَ أنفثُ الدّخان أمامَ طاولة اللعب. رفقة جُلسائي من أبناء الحومة، رحنا نقتل الوقتَ ورئاتِنا بالحصّة اليومية من أدخنة مُميتة، وهُم لا يعرفون بعدُ أنّني قد خلعتُ عني، لتوّي، رداءَ الشّاعر المعطّل الذي يعرفون وارتديتُ ثوبَ التّاجر..
