شهد موضوع دعم الأغنام والأبقار في الآونة الأخيرة جدلاً ونقاشًا حادًا في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بعد الحملة الممنهجة التي أطلقها تباعاً قيادات حزبين يتذيلان مؤخرة ترتيب الفرق النيابية، ليعمد للترويج لها لاحقًا عدد من الفاعلين السياسيين، إما عن جهل أو تجاهل، حيث قاموا بتكرار نفس الأسطوانة التي ترتكز على ثنائية الرقم الضخم “13 مليار درهم” والعدد المقلص “18 مستورد”، بهدف تجييش وتحريض الرأي العام، لخدمة أجندات سياسية وانتخابية متناقضة، لكنها في ذات السياق موحدة في استهداف الحزب الذي يرأس الحكومة.
لكن التساؤل الذي يُطرح هنا ليس في كيفية التقاء المصالح المتناقضة حول هدف واحد، فذلك يجد إجابته في التخوف من الحضور الميداني والانتخابي القوي لحزب التجمع الوطني للأحرار، الذي كرسته جميع الاستحقاقات الجزئية التي خاضها الحزب، مما بات يؤشر على تكرار سيناريو 2021 في الاستحقاقات المقبلة. لكن التساؤل المطروح هنا يتمثل في كيفية تنظيم حملة منظمة انطلاقًا من معطيات غير دقيقة؟ وكيف تم التلاعب بالأرقام لتغليط الرأي العام؟ وهي أسئلة تحيلنا على التساؤل عن الميكانيزمات التي تعتمد عليها هذه الجوقة التي احترفت التضليل والتخوين بهدف الاغتيال الرمزي والسياسي للخصوم.
13 مليار درهم… بين الحقيقة والتضليل
ركزت الأدوات التضليلية بشكل مكثف على الترويج للرقم 13 مليار درهم، دون تقديم أي توضيحات بشأن المصادر التي استندت إليها في ذلك أو الطريقة التي تم بها صرف هذا المبلغ الضخم. حيث كان الهدف من ذلك هو خلق حالة من الصدمة والدهشة في ذهن المتلقي، فمثل هذا الرقم يصعب على أي مواطن يمتلك ذرة مواطنة أن يستسيغه أو يتقبله. وعوض تقديم تبرير منطقي لهذا الرقم، عملت الماكينة التضليلية على تهريب النقاش إلى الأمام، مُركّزة على فرضه كحقيقة مسلّمة لا جدال فيها، من خلال افتراض المشاريع التي يمكن أن يُموّلها هذا المبلغ الضخم، على غرار المستشفيات الجامعية والملاعب الرياضية… فيما سعت الأطراف التي ركبت على الموجة إلى جلد الفاعلين في القطاع لزيادة حالة الصدمة والدهشة لدى الرأي العام.
لكن عند الرجوع إلى الوثيقة نفسها التي تضمنت الإيضاحات المقدمة خلال مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2025، والتي مر عليها نصف سنة بالمناسبة، يتبين أن مجموع قيمة واردات الأبقار في المغرب خلال سنتي 2023 و 2024 قد بلغ 3,671.1 مليون درهم (الرقم1 في الوثيقة أسفله)، فيما بلغت واردات الأغنام خلال ذات الفترة الزمنية 1,942.7 مليون درهم(الرقم2 في الوثيقة أسفله). وبالتالي، لم يتجاوز مجموع واردات الأغنام والأبقار 5,613.8 مليون درهم، أي 5.6 مليار درهم، وهو ما يعادل أقل من نصف 13 مليار درهم التي يروج أنها قدمت كدعم! وبالتالي، يطرح التفاوت الكبير بين قيمة الواردات من الأغنام والأبقار وبين قيمة الدعم المروج له الكثير من الاستغراب والشكوك. إذ كيف يمكن أن يمثل مبلغ الدعم ضعف قيمة الواردات من الأبقار والأغنام!
احتساب رسوم الاستيراد “الحمائية” لتغليط الرأي العام
لكن بالعودة إلى ذات الوثيقة المتعلقة بالإيضاحات المقدمة خلال مشروع قانون المالية، يتبين أن مروجي هذه الادعاءات قد عمدوا إلى احتساب رسوم الاستيراد التي أوقفتها الحكومة بالنسبة للأغنام وكذا الأبقار الأليفة التي يفوق وزنها 350 كيلوغرام ، والتي كانت تصل في الحالتين معا إلى 200%، على أساس أنها دعم حكومي. لكن، الحقيقة أن هذه الرسوم كانت تمثل إجراءً حمائيًا، لا مصدرًا للإيرادات، حيث كان الهدف منها يتمثل في حماية القطيع الوطني من خلال جعل استيراد الأغنام والأبقار الموجهة للذبح مكلفًا للغاية، وهو ما كان يجعل الفاعلين في القطاع لا يجرؤون على استيراد الأغنام والأبقار التي تفوق 350 كيلوغرام، حيث لم تتحصل الخزينة العامة على مداخيل هذه الرسوم منذ إقرارها إلى الآن، وهو ما يوضح أن هذه الإجراءات لم تكن تهدف إلى زيادة الإيرادات بقدر ما كنت تسعى إلى حماية “الكساب” في العالم القروي من منافسة القطيع المستورد.
وبذلك ظلت هذه الرسوم مجرد إجراءات على الورق، لا تؤثر أساسًا على مداخيل الميزانية العامة. ومن هنا، يصبح الحديث عن “تبديد” المال العام مسألة غير دقيقة، بل هي حق أريد به باطل، إذ لم تكن تلك الرسوم لتدخل أصلاً في الميزانية لو لم يتم إيقافها. إذ كيف يمكن للفاعل في المجال أن يجرؤ على دفع رسم قدره 200% عن كل رأس، ليؤدي في النهاية مبلغًا يساوي ضعف ما أنفقه على شراء الأغنام والأبقار، فضلًا عن تكاليف النقل والشحن!
الخلط بين رسوم الاستيراد “الحمائية” والدعم الاستثنائي للأغنام في عيد الأضحى لزيادة التضليل
من جهة أخرى، لجأت أدوات التضليل إلى خلط متعمد بين الإعفاءات الجمركية التي لم تكن تُدر أي إيرادات على الميزانية العامة في الأصل، وبين الدعم الحكومي الاستثنائي الموجه للمستوردين خلال عيد الأضحى، والذي حُدد في 500 درهم عن كل رأس من الأغنام المستوردة، إذ لم يتجاوز مجموعه خلال سنتي 2023 و2024 مبلغ 437 مليون درهم، أي 0.437 مليار درهم، وهو مبلغ يبقى معقولًا ومقبولًا في ظل تعاقب سنوات الجفاف طيلة سبع سنوات متوالية، حيث سعت الحكومة من خلال هذا الإجراء إلى تعزيز القطيع الوطني الذي عرف تراجعًا كبيرًا بسبب توالي سنوات الجفاف، قدر بنسبة 37 بالمائة مقارنة بإحصاء عام 2016.
لذلك، فإن الخلط المتعمد بين قيمة الرسوم الجبائية “الحمائية” التي تقدر بـ 7,342.3 مليون درهم بالنسبة للأبقار (الرقم3 في الوثيقة أسفله)، و 3,869.7 مليون درهم بالنسبة للأغنام (الرقم4 في الوثيقة أسفله)، مع الضريبة على القيمة المضافة على الأبقار التي تناهز 744 مليون درهم عن الأبقار(الرقم5 في الوثيقة أسفله) و 1,163.4 مليون درهم عن الأغنام (الرقم 6 في الوثيقة أسفله)، وبين الدعم الحكومي الذي لا يتعدى 437 مليون درهم عن الأغنام أي ما يعادل0.437 مليار درهم من جهة ثانية، يعد بمثابة جريمة نصب واحتيال على العقول، وعملية تضليل ممنهجة تهدف إلى تحريف المعطيات بهدف تضخيم مبلغ الدعم من 0.437 مليار درهم إلى 13 مليار درهم، للتأثير على الرأي العام وزيادة حالة الإرباك والتشويش على المواطنين الذين وجدوا أنفسهم في أمام سردية واحدة تحاول إيهامهم بخسائر غير موجودة في الواقع.
من جهة أخرى، لنا أن نتخيل الكلفة التي كان من الممكن أن تصل إليها الأغنام خلال العيدين الماضيين لولا هذه الإجراءات الاستباقية التي مكنت من استيراد 875 ألف رأس، منها 386 ألف رأس في سنة 2023 و489 ألفًا في سنة 2024. حيث ساهم هذا الاستيراد بشكل مباشر في ضبط السوق واستقرار الأسعار، أو على الأقل في الحد من ارتفاعها الكبير، إذ أن هذه الكمية المستوردة رفعت من حجم العرض، مما خفف من حدة الضغط على الطلب، وسمح بتحقيق نوع من التوازن النسبي في السوق. ولو لم يتم اتخاذ هذا القرار، لكان النقص في العرض قد أدى إلى قفزة غير مسبوقة في الأسعار، قد تصل إلى حدود 250 درهمًا للكيلوغرام.

تقليص عدد المستوردين من 156 إلى 18 وتحزيبهم لزيادة حالة الصدمة والإرباك لدى الرأي العام
عمد مروجو هذه الاتهامات إلى تقليص عدد المستفيدين بشكل متعمد، بالموازاة مع تضخيم مبلغ الدعم، حيث ادعوا أن العدد يقتصر على 18 مستوردًا فقط، وهو رقم لم يُقدّم له أي دليل ملموس أو لوائح تؤكده. فقد اقتصروا على تكرار الرقم فقط، لينتشر في مواقع التواصل الاجتماعي والجرائد المقروءة كالنار في الهشيم. علمًا أن عدد المستوردين حسب الوثائق الرسمية لوزارة الفلاحة يصل إلى 156 مستوردًا، منهم 61 مستوردًا في عام 2023 و95 مستوردًا في 2024، وهو ما تؤكده اللوائح التي نشرها “المكتب الوطني للحبوب والقطاني” بكل وضوح وشفافية.
والأبشع من ذلك أن جوقة التضليل لم تتوقف عند هذا الحد، حيث سعى ما تبقى من قيادات البيجيدي، وعلى رأسهم “البوق الصوتي” للحزب، والوزير الأسبق الذي اشتهر برفض العمل السياسي “بالبيليكي”، بالإضافة إلى “الحاج اليساري” الذي ارتبطت مواقفه دائمًا بالتدليس و”التضليل السياسي” حسب البلاغ الشهير، إلى تحزيب المستفيدين، والأكثر من ذلك اعتبارهم قياديين في الأحرار، دون تقديم أي أدلة حول ذلك أو حتى نشر لائحة بأسماء هؤلاء المستوردين.
علمًا أنه تم فتح المجال أمام جميع المستوردين الذين تتوفر فيهم الشروط المنصوص عليها في القرار الوزاري المشترك بين وزارة المالية ووزارة الفلاحة، وعلماً كذلك أن إمكانية الإعفاء من الرسوم الخاصة باستيراد الأبقار والأغنام لا تزال سارية المفعول، خاصة مع تأطيرها في قانون المالية الذي صادقت عليه أحزاب الاستقلال والأحرار والبام. وهو مايجعل إمكانية الاستيراد مع الإعفاء من الرسوم متاحة أمام جميع الفاعلين في القطاع إلى غاية الآن.
ولذلك فحري بهذه الجوقة عوض أن تستمر في “مندبة انتقاء المستوردين” أن تعمل على تشجيع مستوردي المواشي على الاستيراد لتخفيف الضغط على القطيع الوطني حتى يستعيد عافيته. بل سنصفق لهم أكثر إذا ما عملوا على تشجيع رجال الأعمال من حزبيهم على الاستيراد، والمساهمة في تقديم خدمة تاريخية لإعادة تكوين القطيع المحلي.
حملة ممنهجة في مسار متواصل من حملات الاستهداف
في هذا السياق، لابد من التذكير على أن هذه الحملة تأتي في إطار سلسلة متواصلة من الاستهدافات الممنهجة التي انطلقت حتى قبيل استحقاقات 2021، حيث يلتقي المهاجمون، رغم اختلاف منطلقاتهم وتناقض مصالحهم، في نفس الأسلوب، المرتكز على تغليط الرأي العام بترويج أرقام مغلوطة ومعطيات غير دقيقة.
وهو ما جرى في موضوع الأرامل، حيث تم الادعاء كذبًا بأنه تم إقصاؤهم من الدعم، في حين أن الواقع يشير إلى أن دائرة المستفيدات قد توسعت بشكل كبير، إضافة إلى ارتفاع قيمة الدعم المخصص لهن. كما تم اختراع رقم “18 مليون مستفيد” في موضوع “راميد”، من خلال احتساب العدد التراكمي بين سنتي 2012 و2022، للترويج كذبا لإقصاء ثمانية ملايين شخص من البرنامج. بالإضافة إلى احتساب فقدان فرص الشغل الموسمية في العالم القروي بسبب توالي سنوات الجفاف كجني الزيتون مثلا، على أساس أنها مناصب شغل قارة تم فقدانها بهدف تضخيم معدلات البطالة بأرقام مغلوطة.
وانطلاقًا من هذا السياق، ينبغي أن نتوقع تصاعد وتعاظم هذه الحملات خلال المرحلة المقبلة، كما وقع قبل الاستحقاقات التشريعية السابقة، حيث يُنتظر أن نعيش ما يمكن تسميته “حرب الكل ضد الواحد”، على غرار مفهوم “حرب الكل ضد الكل” الذي طرحه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، من خلال أسلوب التحامل الجماعي على الحزب الذي يُعتبر الأوفر حظًا لتصدر الانتخابات المقبلة.
لذلك، ينبغي على المواطن اليوم التحلي باليقظة والحذر أمام هذه الحملات التضليلية التي يصطنعها “تجار الأزمات” و يستغلها “فراقشية الانتخابات”، وأن لايستهلك هذه الاتهامات ويحولها إلى مسلمات وقناعات دون وعي نقدي وتمحيص المعلومات وقراءة السياقات والخلفيات، ليكون تقييمه مبنيا على حقائق ومعطيات، وليس على أوهام وافتراءات.