عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 101

مساخيطـْ الصّحافة.. 

 

أن تكونَ “مُصحّحا” (مدققا لغويا) في صحيفة من حجم “المساء” معناه أن تكبّ على التّصحيح من بداية النهار إلى حدود الرّابعة والنصف مساءً.. مقالات تقصف من جميع الجهات والحواضر، فيها السّمين لكنْ الكثيرُ من الغثّ. أخطاء وهفواتٌ وأغلاط بالجملة يجب أنْ تزول من المكتوب. ولك أنت، رفقة مُحاربي الصّفوف الأخيرة، ألا تدّخروا جهدا في محاربة زوائد المكتوب والإطاحة بها حيثما انحشرتْ بين الحروف، في أفق تدقيق المقال لقرّاء اليوم المُوالي..

شتّانَ بين امتشاق القلم هنا وبين امتشاقه هناك، في تلك الدّار. حين أتذكر الدّار يُصيبني بسبب ما كان يجري بين جُدران الدّار الدّوارُ! تَسْوَدّ شاشة الجهاز أمامي وتنزلُ الغشاوة على الناظرَيْن. أقوم من مكاني وألجُ دورة المياه القريبة. كلّ شيءٍ نظيفٌ وشفّاف، عكسَ ما كان عليه الحال في دارك، يا جحا النّاشرين. هناك، كان يكفي أن تضطرّ إلى دخول دورة المياه كي تحصل على ما يكفيك اليومَ كله من الاشمئزاز والنفور ويزيد. أما حين تتوالى قذارات المُدير، بلسانه الطويل وأفق تفكيره القاصر، فيتحوّلُ المكان والزّمن إلى سجن مفتوح على كلّ العذابات.

رششتُ وجهي ببعض الماء ومرّرتُ يدي على شعري، وأنا أتطلع في المرآة أمامي إلى عينيّ المُنتفختين سهراً ودخاناً، مُحاولاً طردَ ذكريات الدّار. تأبى الذاكرة إلا الإصرار على إعادة شريط الخمسة شهور التي قضيت هناك. تنط عجائب الزّمان بين حيطان الدّار إلى سطح اللحظة. أعود إلى الجهاز وأُنزّل المقالَ المُوالي، هروبا من غرائب الدّار ومُديرها، منبعِ الغرابة في الدّار، وربّما في كلّ العاصمة..

-مَن الذي اخترع بدعة التّصحيح في إعلام البلاد؟.. أخبروه بأنّني أكنّ له كلّ كُرْه العالَم!

يقول مُصحح، نقلا عن مُصحّح؛ وتنطلق الضّحكاتُ في ركن مساخيط الصّحافة داخل مقرّ اليومية. تنزاح غشاوة المرارات وتَكسر الضّحكاتُ هدوءَ المكان. ينضاف اثنان أو ثلاثة من الزّملاء إلى الجوقة الضّاحكة. وحول أكواب الشّاي والقهوة، نشحن أنفسنا بما نستطيع من مرح لبداية يوم آخرَ في مهنة مُتعِبة..

كانت لي في أيام الرّباط حكايات غيرُ حكايات جحا ونوادره المُضحكة. كان ليلُ العاصمة يعلن نفسه وقتاً مُمتدّا على آفاق برحابة المُحيط وشالة ونزهة حسان ولوداية؛ عبق التاريخ وأحاديث الجغرافيا. والذات المُنشطرة الوحيدة حين تريد أن تنسى مُضحكات الدّار والنّشر تدفعك إلى أن تدفن أحزان غربتك في تفاصيل جسد عابر قد تجود به، ذاتَ غفلة، وتيرةُ حياة الرّباط السّريعة أيامُها، المُتشابهةُ لياليها.

والآن هُنا، لا أجد فرقا كبيرا بين وضعي هناك، قبل عشر سنوات، وبين وضعي الرّاهن. في الرّباط كنتُ وحيداً وفي الدّار البيضاء أنا وحيدٌ.. صحيح أنّني الآن متزوج ولديّ طفلان يُعطيان معنى لوُجودي. لكنْ أين هما الآن؟ ماذا يفعلان في هذه اللحظة؟ هل ما زال الأكبرُ يُشاكس أمّه ويرفض إطاعة أوامرها سائلاً إياها، في كلّ لحظة، “أين بابا؟ لماذا لا يبيتُ في المنزل مثل والد محمد (صديقِه) ابن الجيران؟ وهل سيأتي لزيارتنا في هذا السّبت أم عليَ أن أنتظر أسبوعاً آخر لرؤيته؟”.. هل ما زال يهرب منها إلى سطح المنزل وينزوي هناك، لائذاً بالصّمت كلما شاهَد في التلفزيون طفلا صغيراً رفقة أبيه؟..

كانت تنقل إلي أسئلته، خلال مكالماتنا أو حين أذهب لزيارتهم على رأس كلّ أسبوع أو أسبوعين، فأغالب الدّموعَ وأبلع مراراتي وأظهر رباطةَ جأش كاذبة وقدرةً خادعة على التحمّل.

وحيداً كنتُ في ليالي العاصمة قبل عشر سنوات ووحيدٌ أنا الآن في الدّار البيضاء؛ عاجزا عن تدبّر شقة تجمعني بعصفورَيَّ وأمّهما؛ والمهنة مسخوطُ صحافة، مهمّته التّصحيح، ولِسخرية الأقدار يأبى وضعُه التّصحيح.. بعد سنتين ويزيد على هذي الحال، مُنشطراً نصفين: جثة في مدينة وعقلٌ وكيانٌ في أخرى، وإنْ هيّ إلا ثلاثة شهور أو أربعة على ظهور ملامح تصحيح الوضع، أخيراً، وفي الوقت الذي بدأتُ أخطط للمّ الشّمل، أبت أقداري الحمقاءُ إلا أن يُعتقَل ربّان السّفينة ويُجهض مشروعي وحُلم مهدي في أن يرى، أخيراً، والدَه يبيتُ معه تحت سقف واحد.

وحيداً عشتُ قبل عشر سنوات في درب مهنة المساخيط؛ ووحيداً شاءتْ لي أقدارٌ أن أظلّ وتظلّ، صغيري، والمهنةُ مَتاعب..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *