عرصة المعاش، الرابعة والنصف عصرا.. من خلال الصف الطويل، بدا لي أنّ انتظاري لطاكسي المحاميد (بدون إضافة أيّ رقم أو وصف) سيطول هذه المرة أيضا.. وأنا من النوع الذي لا يحبّ الانتظار… أحيانا أقطع هذه المسافة (الطويلة) مشيا فقط لأن الطّاكسي “تعطّل اكثر من القْياس“…
مراكش- عبدو المراكشي
عرصة المعاش، الرابعة والنصف عصرا.. من خلال الصف الطويل، بدا لي أنّ انتظاري لطاكسي المحاميد (بدون إضافة أيّ رقم أو وصف) سيطول هذه المرة أيضا.. وأنا من النوع الذي لا يحبّ الانتظار… أحيانا أقطع هذه المسافة (الطويلة) مشيا فقط لأن الطّاكسي “تعطّل اكثر من القْياس“…
بجلبابي الصوفي وطاقيتي السوداء، سرت ببطء، مثل “بوهاليّ” من أزمنة الماضي، حتى نهاية الصف وانشغلتُ عن النظرات بتشغيل شاشة هاتفي “الخلوي“..
واستقبلتتي أخبار الحرب، حرب الطرق المُكلّفة:
“حادث مروري خطير في مراكش“..
أطفأتُ “الخلوي” واقتربتُ منها، من إحدى الشّجرتين الباقيتين في هذا الجانب من عرصة المعاش.. ويا لها من شجرة!.. هي بالنسبة إلى مرتفقي المحطة وسائقيها ومنظميها وباعتها الجائلين ومتسوليها ولصوصها ليست أكثر من شجرة فاصلة بين طاكسيات “المصلى” ونظيرتها التي تنطلق صوب”قارة المحاميد”، لكنها بالنسبة إلي شيء آخر، شيء مختلف تماما، عالَم قائم بذاته من الشّخوص والأطياف والأشباح والظلال تتعاقب على مسرحها المفتوح في ساعات النهار وبليل…
فجأة، انتبهت إلى حركة غير عادية على يميني. أطفأت “الخلوي” ودلّيته في جيب جلبابي واستعددتُ لهذا الطارئ…
كانتا ثلاث نسوة يجرين في اتجاهي.. في الوهلة الأولى لم أستوعب ما يجري.. فكدتُ أ”كفّض” أطراف جلابتي وأنطلق في الجري بدوري.. لكنْ لمحتُ، في الجهة اليسرى، الطاكسي قادما في اتجاهي تماما…
وفقط تراجعتُ خطوتين إلى الوراء ومددتُ يدي لأفتح باب المقعد الأمامي، وما أدراك ما المقعد الأمامي!..
جرى كلّ شيء بسرعة.. كانت مُتزعّمة النساء الثلاث شابة على أعتاب الثلاثين، قصيرة وسمراء و… مؤدّبة! حين نظرت إلي وعرفت أنني ذاهب بدوري إلى “المحاميق”، أبعدت يمناها عن مقبض الباب الأمامي وتفرّغت لتأمين مجالس لهنّ معا في المقاعد الخلفية في ظل “الهجوم” الكاسح على الناقلة بمجرد توقفها…
وإن هي إلا دقائق حتى كان “الصرف” في طاسة السائق الشاب، الذي بدا لي فيه شبَه بشخص أعرفه أو لقيته في سياق ما وزمن ما، ربما بعيد…
في أول تقاطع طرق، في محيط “البوسطة” والقصر الملكي (مدخل سيدي ميمون) ظهر سائق دراجة نارية من العدم و”راوغ” سيارة الأجرة في آخر لحظة وهو يبرطم بكلمات عير مفهومة، لحسن الحظ، أرفقها بنظرة جانبية “خاسرة” وحركة سريعة بيسراه، قبل أن يبتعد مواصلا مراوغاته…
ووجدتُني أغمغم أيضا بكلمات ما للسائق بنيّة مبيّتة (الله يسمح ليّ): أن “أجرّه” إلى الحديث:
–أودي غير خليه ألشريف..
قال مُول الطاكسي (الذي يبدو أنه تجاوب مع تعليقي “المُبيّت”) وتابع، مُتأفّفا:
–والله كن شافْ واحد الكسيدة غير دابا خليتها فطريق أوريكا حتى يعدف راسو ويعدف الحديد والطريق…
–فين، طريق الشريفية؟..
قاطعته صاحبتنا التي أركبت مرافقتيها وخاضت معهما في حديث جانبي، قبل أن تقطعه وتقاطع السائق، الذي رد عليها:
–لا، فطريق أوريكا، غير هنا، جهة الهْنا… نقل مزدوج وكاميو وشي مُوطور.. المهمّ داكشي ما فيه ما يتشاف، الطايح اكثر من النايض.. والطريق تّحبسات تمّ والروينة… ما عارف هاد الناس فين غاديين ب…
–السلامة أسيدي، اسمح ليّ ما قاطعت كلامك حيت حتى طريق الشريفية وقعت فيها كسيدة دابا نيت، الله يحضّر السلامة…
–واراه حتى دوك السطوبات اللي خارجين من دوار الهنا والكواسم والهبيشات وسيدي موسى خاصهوم رومبانات يهرّسو السرعة..
قال راكب لم أتبيّنه من الجالسين في الصف الخلفي، ثم أضاف، متحسرا:
–حتى واحد ما كيوقف فيهم.. وانت كتسنى حتى يشعل الأخضر ملي كتبغي تدخل للطريق كتلقى الماطر دايزين طايرين حارقين الضّو الاحمر.. مشكلة مْع هاد الناس، الله يهديهم ويهدينا..
حرب الطرق (علاش “الطرقات”؟) إذن تواصل حصد أرواح مغاربة وعطب أطراف أو أدمغة آخرين وأعصابهم… هي حربنا التي نخوض، يوميا، كما لو كانت “واجبا وطنيا” نتجنّد من أجل تأديته على أكمل وجه: بضحايا ومصابين ومشوّهين..
ترى، ماذا لو أننا، بدل أن نعلن “الحرب” بعضُنا على بعض في طرقنا (أو طرقاتنا) أعلنّاها حربا ضروسا على أعدائنا الحقيقيين: الجهل والتخلف والفساد والإقصاء والتهميش وضعف الأداء في مجالات التعليم والتطبيب والتشغيل… وهلمّ أعداء بالعشرات، بدل أن نواصل… قتلنا.
-شي بلاصة حدا القواس، عافاك..