فأخذ الكبار الكؤوس وكان علينا نحن الأطفال الانتظار لشوط آخر لكن قامت ثورة عارمة من الاحتجاج رغم كوننا جميعاً مجرد ضيوف عند ناس بؤساء.

*حسَن الرّحيبي

أحقَاق (احكاكْ) ݣيݣوز guigouz والتّحميرَة الفارغَة غَنيمة مامّا خلاَل رحلتها السّنوية الطّويلة إلى الدّار البيضَاء.. 

  لم نتذَوق حليبه أبداً ولم نتطلّع إلى ذلك لأن أمهاتنا كفيننا شر حلاَوته وتغذيته ولذّته الاصطناعية حين وفّرت لنا أثداؤهنّ الطاهرة المدرَارة حليباً سائغاً ورائقاً يمنعنا من الالتفات لمنتوجات الصّيدليات التي كانت مفتقدَةً في قرانا. 

ولا لأثداء نساء أخريات كنّ يعرضنها علينا في إطار تبادل المنافع والصداقات والبحث عن تحالفات وأخوة فائضة عن أخوتنا لعشرة أفراد نتصَارع معهم من أجل البقاء أكثر مما نبادلهم المحبة والحديث لأن الظروف لم تكن تسمح بغير البقاء متيقظين وأيدينا على الزّناد être sur le qui-vive بشكل دائم ومستمرّ … 

أما النسَاء اللّواتي كن يتبادلن فضيلة التّآخي بالرّضَاعة فكنّ يجدن الوقت بالكاد عندما ينتظرن أصحَاب الفدادين والحصائد بالسّماح لهن باقتحام الحصائد بعد جمع كل غمار المطّ المنضّض بإحكام على طول وعرض الحصيدة مترامية الأطراف . 

وقبل المناداة عليهم بأمر أكثر منه تفضّلاً وامتناناً : وانُوضُوا آللّݣّاطة فيتسَابقن على الأماكن المتقدمة قبل أن تلتهمها الأغنام والأبقار . 

في لحظة الانتظار تحدث أشياء كثيرة منها أن تصبح أخاً لطفل أو لطفلة يحكم عليك وعليها القدَر بأن لا تحبها أبداً إلاّ كشبه أخت وليس كأخت حقيقية.

سلّم على اختك ! مثل نزار لما طلبت منه أمه السّلام على صديقتها الحميمة زينب.

 اتا سلم على خالتك!  فعبر عن الموقف بعفوية طفولية صريحة لأنه لا يعرف له خالة سوى خالته رقية وعايشة بآسفي.

 اتي مالها خالتي وو ؟.

وهل أنا كنت فعلاً بحاجة لأخوَات وإخوَان فائضين على الحساب ؟ هل كنت في حاجة لتحالفات اقتصادية أو سياسية من أجل المراعي أو المصَالح مثل الأنبياء أو على الأقل مثل آيت حديدّو أو آيت عطّا في الجنوب الشرقي للمغرب ؟ .

نرجع لحُقّنا التاريخي الجَميل والصّامد الذي كان من ضمن أوانينا القليلة يُغسل وينظّف ويلمّع بعناية كبيرة لأنه يصبح أداةً ضَرورية لطبخ شبه قهوة امتزجت فيها روح القهوة المركّزة بدقيق الشعير المحروق وحفنة من الحمّص وبعض التوابل أشهرها القرفة البلدية من ݣيطون سي ميلود ولد التادلاَوية أو سوبيرماركت مرجان المتنقل . 

فقط اوقيتين قهوة وتوابل مخلوطة بأربع ريالات في وقت لم يكن ثمن الكيلو منها يتجاوز الدرهم ونصف . 

لكن لذتها ونشوتها لن تحصُل  عليها اليوم في قهوة كابرتشيو الطاليانية العريقة خاصةً في المساءات  المُمطرة والباردة في فصل شتائنا الطويل في الستينات وغزارة أمطاره المتواصلة في ذلك الوقت الذي امتزج بؤسه ببسَاطة ورَوعة العيش لينتج كيمياء عجيبة من السّعادة لا زالت تلهمني فنّ وروح ولذة وعمق حياة جعلتني أوقف جلّ ذكرياتي في فترة طفولة لن يعيشها أحد أبداً كما عشناها نحن وكأن الزمان توقف في تلك الفترة الجميلة. 

بل تمنحني معنى للاستمرار  والتشبث بخيوط رفيعة من الأمل حين لم نعد نسمع سوى الجوَائح والأوبئة والتهديدات بالحروب ذات البعد التدميري الكاسح بما فيها حرب الجراثيم والڤيروسَات المرعبة أكثر منها قاتلة بالفعل …

  أمّا كيف تسلل إلى خيامنا وأصبح جزء من مواعيننا واتخذ له مكانا في قلوبنا يثير شهيتنا كلما شممنا رائحته الزّكية عن بعد ونحن قادمون من مدرستنا البعيدة أو راكبون دوابنا الهزيلة والضامرة فوق سرگ الحشيش.. ؟.

فالقصة لا تحتاج لكثرة تفكير وطول تخمين.. تستعد ماما لرحلتها السنوية منذ بداية الربيع.

 تجمع السّمن وتربي طيور الدجاج وفي الصيف تجمع أصناف القطاني والحبوب كما تنسج جلابية تأخذها لدار الحاج.. 

نوصلها لحافلة كوباطا فجرا في أوَاخر الصّيف وبداية الخريف آن الكرم يعتصر وباكور الجنانات يبدأ في التحول إلى شريحة شديدة الحلاوة وكرموص النصَارىٰ يأخذ في التساقط تحت أنظار وتناهيد الجميع وأسفهم. 

تمكث هناك لمدة شهرين متتابعين ونحن ننتظر ونضرب الفال بحرقة إن كانت فاطنة جاية هاذ الحد سيري مع الطريݣ البَيضَا والى فاطنة ما جاياش سيري مع الطريݣ الكحلة. طبعا خطان متقاطعان أحدهما من النخّالة والآخر من رماد الكانون ومغزلة تترنح فوقهما لتحديد مصيرنا وغنيمتنا من الانتظار.

دخلت عليك بلالة فاطمة الزهراء اللي توضّرُوا جمال ابوها مع الصباح ولݣاهم مع العشية..  دخلت عليك بالله وناس تخاف الله ومُخّارة العونات ورجال بوخلاَل إلى ما نادوني فالها.. شوق كبير لامرأة عزيزة حَصيلتها من أحقاق (احكاكْ) الكوفيتير الفارغة بصُور مشماش وتفاح وخوخ مثيرة على جوَانبها وأحقاق (احكاكْ) ݣيݣوز أكثر مما يمكن الحصُول عليه سوى خبزة عملاقة يرسلونها لنا لا مثيل لها في قريتنا كما أني على يقين تام بأنه لم يعد هناك من يستطيع صنعها من نساء الدار البيضاء الدّيݣورديات اللّواتي قضَين طفولتهن في القرية وتزوجن بالمدينة ليصبحن مثل الغراب الذي أراد تعلم مشية الحمامة ففقد مشيته دون الحصُول على طريقة مشية الحمامة الوديعة والرقيقة المثيرة للإعجاب..

  

كانت الكؤوس قليلة ولكن كل واحد منا يعلّم كأسه حسب شكله وأنواع الأزهار المرسومة على جوانبه.

 كاس النوار كاس العݣرب..  وإذا تكسر أحدها أو فقط انفجر بمحتواه الساخن عندما يفاجئه صب ساخن على قاعه البارد إلى درجة التجمد ويسيل محتواه الثمين على الحصير المهتريء فيتلقىٰ بائعه كل أنواع الشتم والسّباب. 

الله يتبّعوا لبلاَ !  ولد لحرام.. 

آكلشي ولى مغشوش !.

تاشمع الاقرع تاع ولد الحسَن حرامي دغية يدير الغولة وفتيلته على قَدّها ، عا في الجّنب الله يقَفّر ليه العشّ.. 

بينما نستمر نحن في التناوب على نفس الكأس لأسابيع وشهور حتى تتوفر بعض القروش ويتذكروا أن هناك خصاصاً في الكيسان.. 

لن أنسىٰ أبداً ذهابنا لموسم البحيرات نساء وأطفالاً دون أن يكون مستقبلونا قادرين على استيعاب شغبنا ولا عددنا نحن واولاد الشايظمي وأطفال آخرين..  

فأخذ الكبار الكؤوس وكان علينا نحن الأطفال الانتظار لشوط آخر لكن قامت ثورة عارمة من الاحتجاج رغم كوننا جميعاً مجرد ضيوف عند ناس بؤساء. 

 ومال هاذاك اللّي عَد هاذيك مالو ؟ 

وهاذاك اللّي عد هاذاك مالو ؟  

 … يُتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *