تعدّ الزّاوية الجزولية، وهي زاوية صوفية ومدرسة إسلامية في مراكش، من أهمّ زوايا المغرب التي أسهمت في نشر التصوف الشاذلي في المملكة.

تقديم -عبد الرزاق المراكشي  le12

“المغرب بلد الأولياء الصّالحين”.. مقولة تعكس المكانة الخاصّة التي يحظى بها التصوّف في المملكة المغربية، التي يمتدّ فيها الفكر والسلوك الصوفيان إلى أزمنة بعيدة..

لو كنت مواطنا مغربيا، لربّما ساقتك الأقدار لأن تُجاوِر أحدَ هذه المباني الصّغيرة المسمّاة “الزّاوية”. فيها تقام الصّلوات الخمس في أوقاتها، باستثناء صلاة الجمعة. كما يُتلى في هذه “الرّباطات” القرآن وتقام العديد من العبادات التعبّدية الأخرى.

بمناسبة شهر رمضان المبارك، تقترح عليكم “Le12.ma” رحلة تاريخية في رحاب أشهر الزّوايا والطرق الصّوفية في المغرب.

تعدّ الزّاوية الجزولية، وهي زاوية صوفية ومدرسة إسلامية في مراكش، من أهمّ زوايا المغرب التي أسهمت في نشر التصوف الشاذلي في المملكة.

عُرفت هذه الزّاوية بأسماء أخرى مثل زاوية سيدي محمد بن سليمان الجزولي وزاوية سيدي بن سليمان الجزولي، نسبة إلى محمد بن سليمان الجزولي، المعروف كذلك باسم الإمام الجزولي، وهو أحد رجال مراكش السبعة. وقد بنيت الزّاوية على قبر الإمام بعد (المتوفى في القرن الخامس عشر).

أسهمت الزّاوية الجزولية في نشر التصوف الشاذلي في المغرب، إذ إن معظم الزّوايا الشّاذلية المنتشرة في المملكة أصلها “جزولي”.

وتُنسَب هذه الزّاوية إلى الشّيخ سيدي أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن سليمان (وهو جد أبيه الذي اشتهر بالنسبة إليه) الجزولي نسبة إلى “جزولة”، القبيلة الأمازيغية في سوس الأقصى.

رأى الشّيخ سيدي محمد بن سليمان الجزولي في دوار “تانكرت” (على واد يعرف بهذا الاسم في بلاد سوس). ولا يعرف بالضبط تاريخ ولاته، وتوفي في 870 هـ/ 1460 م. وقد خرج منها بسبب قتال نشب فيها.

بدأ سيدي أبو عبد الله محمد بن سليمان الجزولي حياته العلمية طالبا للعلم في مدينة فاس (وتحديدا في الصفارين، وبيته مشهور فيها). وقد تَمكّنَ في الفقه المالكي، حتى أنّ أحمد بابا التنبوكتي ذكر أنه كان يحفظ فرعي ابن الحاجب. وقيل إنه كان يحفظ المدونة. وقد التقى في فاس بالشّيخ سيدي أحمد زروق، إلا أنه قد اعتمد في سلوكه طريق التصوف على الشّيخ سيدي أبي عبد الله أمغار الصغير. فقد عاد من فاس إلى رباط “تيطنفطر” في ساحل مدينة أزمور، حيث مقرّ الشّيخ أمغار وتتلمذ عليه ولازمه ردحا من الزّمن وأخذ عنه طريقته في التصوف.

وقد ذكر صاحب “الترجمان المعرب عن أشهر فروع الشاذلية بالمغرب” سنده مع ذكر من أجازه بهذا السند، كما ذكره غيره.

أسّس الزّاوية الجزولية الشّيخ محمد بن سليمان الجزولي الذي يتصل بأبي الحسن الشاذلي من طريق محمد أمغار، فسعيد الهرتناني، فعبد الرحمن الركَراكَي، فأحمد عنوس البدوي، فأحمد القرافي، فمحمد المغربي. وترتكز على مبادئ رئيسة يمكن حصرها في ما يلي:

الدعوة إلى التوحيد على وفق مذهب أهل السنة والجماعة، مع الربط بين الإيمان بالله ومعرفته، “فمن عرف الله آمن به”. ومن ثم فبعبادة الله والإخلاص إليه يتم الترقي في مدارج الطريق؛

المعرفة الصوفية: وهي حدسية، تتميز بقوة اليقين، وكشف الحجاب، ومحو الشكوك والأوهام.. وميزت الجزولية بين علمي الظاهر والباطن. كما ميزت بين الإسلام والإيمان والإحسان.

الإسلام والإيمان: فكما للإسلام أركان معروفة، فإن للإيمان دعائم وشروطا وحقيقة ومراتب.

فدعائمه تتلخص في النظر، وشروطه في التقوى والعلم والإخلاص واليقين، واستواء الظاهر والباطن؛ ومراتبه أربع. ولكل مرتبة قواعد. علاوة على أن للإيمان أربعة أصول، وهي الصبر والشكر والرضا والتوكل.

وتلح الجزولية على ضرورة شيخ التلقين، إذ من شرط التائب أن يقتدي بشيخ عالم بالظاهر والباطن. والتوبة نتيجة لذلك شرط للمريد الراغب في سلوك الطريق. ومن ثم دأب شيخ الجزولية على قص بعض شعر التائب إعلانا لتوبته. هذا إلى جانب الزهد والمجاهدة. وينبغي للمريد تعاطي العلوم التي تعرفه بربه ودينه، وتحسن بسلوكه. أي الجمع بين علمي الظاهر والباطن، أو بين الشريعة والحقيقة.

وقد وضع الجزولي آدابا للمريد إزاء شيخه، أصبحت في ما بعد بمثابة قانون لمن رغب في الانخراط في سلك الطريقة الجزولية. ومما تحث عليه الجزولية أيضا آداب المجالسة والمخاطبة، والتزام الصدق، والمداومة على ذكر الله والصلاة على رسوله. والذكر هو الوسيلة التي تساعد المريد على الترقي في مقامات التصوف. وتنحصر أوراد الجزولية في الهيللة والحوقلة والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغ التي دونها الجزولي في “دلائل الخيرات“.

ومن أشهر أقطاب الجزولية بعد سيدي ابن سليمان، عبد العزيز التباع وعبد الله الغزواني وعبد الكريم الفلاح وعبد الرحمن الفاسي. وتتصل معظم الطرق الصوفية التي تأسست في ما بعد بالجزولية.

أول ما نشأ عليه شخص الطريقة الجزولية محمد بن سليمان الجزولي، بحسب مصطفى بوزغيبة، الباحث في “مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة، تعلم العلم، “فكان بفاس في مدرسة الصفارين، وبيته بها مشهور معروف“.

وكان، رحمه الله، بحسب المصدر نفسه، من الأعلام في المذهب المالكي، فقد ذكر صاحب “كفاية المحتاج” عن الجزولي أنه كان يحفظ فرعي ابن الحاجب، وقال غيره: إنه كان يحفظ المدونة، ووصفه التنبكتي في “نيل الابتهاج” بالعلم والولاية.

ومن كلام الجزولي، رحمه الله، في أهمية تعلم العلم وبخاصة العلم الشرعي المقرون بالعمل: “العلم دواء والجهل داء، العلم ولاية والجهل عداوة، العلم صفة المومنين والجهل صفة الكافرين“.

كما أن طريقته مبنية على التمسك بالكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة والعمل بهما ظاهرا وباطنا، وكثيرا ما حث مريديه على ذلك، يقول رحمه الله: “قيل لي: قل للمريدين يتأدبوا بآداب السنة“.

شهد له العامة والخاصة بصلابة دينه وإيمانه لا يخاف في الله لومة لائم، يقول صاحب الإعلام: “وكان واقفا على حدود الله، عاملا بكتاب الله، محافظا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثير الأوراد“.

وقد عُرفت الطريقة الجزولية بدورها الفعال في استنهاض الهمم وحشد الجموع للجهاد، في فترة عرف فيها المغرب بالضعف والاقتتال الداخلي، حيث عرفت دعوته استجابة كبيرة لدى الأوساط الشعبية، الأمر الذي جعل بعض القواد وأصحاب السلطة يتضايقون من هذه الزّاوية وأتباعها، ومن كلامه رحمه الله في هذا الصدد: “دولتنا دولة المجتهدين المجاهدين في سبيل الله القاتلين أعداء الله“.

ولم تكن “الطريقة” الجزولية بمعزل عن الواقع، بل حملت على عاتقها رسالة إنقاذ المجتمع من براثن الجهل والتعصب… إلى رحاب الروحانية الإسلامية.

ومن مواقف شيخها، رحمه الله، التي آثر فيها توحيد الأمة ونزع فتيل الصراعات التي كادت تعصف باستقرار المجتمع وأمنه ما حكاه التنبكتي: “وكان ببلاده (سوس) وقت قتال انفصل فيه الصفان عن قتيل تبرأ كل من قتله ولم يحضره هو، فأراد إصلاحهم فقال لهم: أنا قتلته، وعادتهم إخراج القاتل من بينهم فيصطلحوا، فخرج لطنجة”، فهدى الله به رجالا صاروا منارات للناس وتاب على يده خلق كثير.

وما يشهد على جهود هذه الطريقة في نشر العلم والمعرفة والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم علما وعملا وسلوكا وذوقا وإزالة ظلمات الجهل والوهم في صفوف أفراد المجتمع هو كثرة المريدين الذين التفوا حول شيخ الطريقة ومجدد منارها محمد بن سليمان الجزولي، والذي قُدر عددهم بنحو اثنا عشر ألفا وتسعمائة وخمسة وستون، وكذلك كثرة الطرق المتفرعة عن طريقته المباركة.

كما يعدّ كتابه المتميز “دلائل الخيرات” محط اهتمام وتقدير وعناية لدى الخاص والعام، داخل المغرب وخارجه، فقد أكبّ عليه العلماء بالشرح والتوضيح وتبيين فضائله وإبراز خصائصه واستخراج كنوزه ودرره والنسج على منواله، كما لهجت به ألسنة الناس على مختلف طبقاتهم وتعهّدوه بالحفظ والتلاوة آناء الليل وأطراف النهار.

وختم مصطفى بوزغيبة مقاله حول الجزولي بالقول: يتضح لنا أن الطريقة الجزولية منسجمة في مبادئها وأسسها مع المناخ العام السائد في المغرب، وهو: الاتجاه السني العملي، فقد أعطت للتصوف المغربي مكانة مرموقة تنضاف إلى تلكم الصفحات المشرقة والمضيئة من تاريخ بلدنا خاصة وتاريخ الأمة الإسلامية عامة، بفضل جهود محيي الطريقة الشاذلية ومجدد التصوف سيدي محمد بن سليمان الجزولي رحمه الله، والذي استطاع ترسيخ هويتنا الروحية وتبيين معالمها وأسسها مع تميزه رحمه الله بحبه وشغفه بذات المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام من خلال تأليفه “دلائل الخيرات” وما لقيه من قبول تام حيث أجمعت عليه الأمة الإسلامية، وهذا بحد ذاته يعد من الدروس العظيمة في جهود الصوفية المغاربة في توحيد الأمة روحيا وفكريا، وتقوية أركانها وفرض هيبتها، ما زاد شرفَ المغرب ومكانته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *