ينفرد مسجد الحسن الثاني، الذي تم تشييده في تسعينيات القرن الماضي تحت إدارة المهندس المعماري ميشيل بينسو، بصومعته الشامخة التي تجعله يُرى في كل أرجاء المدينة

تقديم -عبد الرزاق المراكشي le12

اشتهر المغرب بكونه يتوفر على عدد كبير جدا من المساجد، حتى لَتجد من ينتقذون هذه الوفرة “الملحوظة” لـ”بيوت الله” على حساب مرافق حيوية أخرى ضرورية لحياة المواطن البسيط، مثل المدارس والمستشفيات والمصانع.

بناء على هذه المعطيات لا تكاد تخلو أية قرية نائية أو مدشر موغل في أعماق “المغرب غير النافع” من مساجدَ يُذكر فيها اسم الله، فما بالك بمُدن المركز وباقي الحواضر الكبرى في بلاد الـ مسجد.

سنأخذكم، من خلال هذه الفسحة الرمضانية “حكاية مسجد” في جولات عللا بساط من كلمات خطّتها أقلام مغربية مختلفة عن أشهر مساجد المغرب وجوامعه.

ينفرد مسجد الحسن الثاني، الذي تم تشييده في تسعينيات القرن الماضي تحت إدارة المهندس المعماري ميشيل بينسو، بصومعته الشامخة التي تجعله يُرى في كل أرجاء المدينة، إذ يعدّ أكبر مسجد في إفريقيا. تحفة معمارية حقيقية تتميز بأكبر مئذنة في العالم وفتحة سقف يمكن رفعها وفتحها من أجل التهوية.

ويعطي الفناء الخارجي للزوار نبذة عن الديكور الداخلي المستوحى من المعمار الأندلسي، برخامه وأبوابه الخشبية الضخمة كما يعتبر موقعه الاستراتيجي منطلقا للجولات لاكتشاف المدينة. ويقدم حمام المسجد، الذي افتتح مؤخرا، بمساحة تزيد عن 3 آلاف متر مربع، فرصة للاسترخاء وفق تقاليد الأجداد للحمامات الشرقية.

يقع هذا المسجد الشّهير، الذي استغرق تشييده ست سنوات ويحمل اسم مشيّده (الحسن الثاني) على ساحل العاصمة الاقتصادية للممكلة. وقد اتخذ له الحسن الثاني شعارا قولَه تعالى “وكان عرشه على الماء”، ويعدّ أول معمار ديني يُبنى على البحر. وكان الملك الراحل قد أشرف على مراحل بنائه بنفسه وصمّم إحدى قبابه التي استعملت لأول مرة في المساجد المغربية، كما أسهم المغاربة في تشييده عبر اكتتاب وطني عامّ. ولعلّ جميع المغاربة الذين عاصروا حقبة التسعغينيات يذكرون الحساب الشهير رقم “111

يتميّز المسجد، الذي يقع في شارع سيدي محمد بن عبد الله، بموقعه وضخامة حجمه وأصالة تصميمه، وبمئذنته المرتفعة 200 متر، بينما تشكل الأبنية الملحقة به مجمعا ثقافيا متكاملا. ويزوره كا يناهز 300 ألف سائح أجنبي سنويا، ويعدّ أيقونة المساجد المغربية، التي يحرص المصلون من مختلف المناطق على ارتيادها خصوصا حين يحل شهر رمضان الفضيل. ولا يبعد كثيرا عن محطة القطار الدار البيضاء -الميناء.

يرجع تاريخ فكرة إنشاء المسجد، الذي يمتد نصفه على مياه أطراف المحيط الأطلسي على الشاطئ الغربي للمدينة، ونصفه الآخر على اليابسة، إلى أول زيارة رسمية للحسن الثاني لمدينة الدار البيضاء بعد توليه العرش في 1961، إذ تعهّد آنذئذ بأن يهب العاصمة الاقتصادية “مبنى كبيرا رائعا يمكن أن تفتخر به حتى نهاية الزمان”. وصرّح بأن الفكرة راودته حين قرّر بناء ضريح والده محمد الخامس في مدينة الدار البيضاء، إلا أنه بعد أسابيع ارتأى أن يكون الضريح في مدينة الرباط، وقرر حينئذ تعويض الدار البيضاء ببناء معلم تاريخي، ففكر في بناء مسجد على الماء، شعاره الآية الكريمة المذكورة آنفا.

وعكَس تخصيص الملك الراحل العاصمةَ الاقتصادية للمملكة بأكبر معلم روحي وحضاري أهمية المدينة، التي يمثل المسجد رمزا لها، بما يضمن لها تنمية معمارية متناغمة وإشعاعا عالميا روحيا، على غرار مدينة فاس المعروفة بجامع القرويين والرباط (صومعة أو مئذنة جامع حسان) ومدينة مراكش (صومعة أو مئذنة جامع الكتبية).

وكان اختيار الموقع على ساحل الأطلسي ليطل المسجد على بلاد المغرب وأوروبا، وفي هذا السياق قال الحسن الثاني “أريد أن يشيّد على حافة البحر صرح عظيم لعبادة الله، مسجد تهدي مئذنته جميع السفن القادمة إلى الغرب إلى طريق الخلاص، الذي هو طريق الله.. أريد أن أبني المسجد على الماء، كما أردت أن يكون المصلي فيه والداعي والذاكر والشاكر والراكع والساجد محمولا على الأرض، ولكنه أينما نظر يجد سماء ربه وبحر ربه“.

تبرّع 12 مليون مغربي لبناء هذا الصرح الإسلامي الكبير عبر اكتتاب استمرّ 40 يوما، وصدر لكل متبرع إيصال بمبلغ اكتتابه، وشهادة تذكارية عليها صورة المسجد. وبلغ مجموع التبرعات العامة للمغاربة نحو 30 مليون درهم (3 ملايين دولار) كما أكدت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية آنئذ.

وقد صمّم المسجدَ المهندس المعماري الفرنسي ميشيل بينسو، وهو ممن استقدمهم الملك إلى المغرب، للعمل على تصميم عدد من القصور الملكية والمباني الإدارية في البلاد ومناطق جديدة بالمدن الكبرى. وقام بينسو بتصميم المسجد على بنية تاريخية وأفق فني منفتح على العمارة المعاصرة، وذلك بعد سنوات قضاها في دراسة العمارة الإسلامية المغربية بعدما عاش في الدار البيضاء أكثر من 20 عاما.

واستلهم المهندس المذكور تصميمه لمشروع المسجد الكبير، الذي كان أشهر إنجازاته المهنية، من ثلاثة مصادر رئيسية، هي جامع الكتبية في مراكش، والجزء القديم من مسجد حسان في الرباط، ثم الجامع الكبير في إشبيلية. وجاء تصميم المسجد على مساحة إجمالية تبلغ 90 مترا مربعا، بمثابة خليط من التصميمات الأندلسية العتيقة بهذه المساجد، فأدمج أسلوبا مغربيا مع خصائص حديثة في تصميم المبنى، مسايرة للتطورات التي تشهدها المباني التاريخيّة حول العالم. قد شُيد المسجد على جانبين، الأول من جهة اليابسة عبارة عن مدخل مُزين بأبواب مزركشة وأقواس منقوشة ذات دلالات تاريخيّة، والثاني وسط البحر.

ومن التحديات التي واجهت البناء وقتئذ دفن وردم 15 هكتارا من مساحة البحر باستخدام موادّ شديدة المقاومة، تكفل متانة البناء وثباته فوق الأمواج، مثل طلاء الترافرتين والتيتانيوم للأبواب و”تدلاّكت” في الداخل لمواجهة الرطوبة. وتطلّب البناء المغمور في ماء المحيط ما يناهز 300 ألف متر مكعب من الخرسانة و40 ألف طن من الفولاذ. وقد كانت جميع مواد البناء المستخدمة في بناء المسجد من المغرب، باستثناء الأعمدة المصنوعة من الغرانيت الأبيض و50 ثريا زجاجية، استوردت من مورانو في إيطاليا.

لزخرفة المسجد تم استعمال 25 ألف طنّ من الرخام والحجر الجيري والغرانيت وما يناهز 10 آلاف متر مربع من الزليج (السيراميك) و37 ألف متر مربع من الجبص و53 ألف متر مربع من الخشب المنحوت و10 آلاف متر مربع من “تدلاّكت” و300 ألف من بلاط الألمنيوم المصبوب و980 مترا مربعا من النحاس و300 ثريا نحاسية وسقفا متحركا يزن 1100 طن ومساحته 3 آلاف و400 متر مربع، مغطى بخشب الأرز المنحوت والمطلي.

واستغرق إنجاز هذه المعلمة الفريدة 50 مليون ساعة عمل، بمساهمة أكثر من 11 ألف موظف، من مهندسين معماريين وفنيين وعمّال وحرفيين. وبعد ستة أعوام كاملة من الأشغال، تمّ تدشين المسجد، الذي كلّف بناؤه نحو 500 مليون دولار في 30 غشت 1993.

وقد تزامن افتتاح هذا المعلم مع الاحتفالات بذكرى المولد النبوي، وحضره عدد من قادة ورؤساء البلدان الإسلامية، وتولى البث الإذاعي والتلفزي لهذا الحدث أكثر من 800 مراسل من مختلف بقاع العالم. وفي 2009، أحدثت بـ”مؤسّسة مسجد الحسن الثاني” لإدارة المسجد وتدبير مرافقه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *