الطائفة العيساوية فرقة صوفية مغربية أسّسها الشيخ الكامل محمد الهادي بن عيسى المغربي (ولد في قبيلة أولاد أبي السباع في 872 للهجرة وتوفي في 1524 م ودفن في مكناس).
تقديم -عبد الرزاق المراكشي le12
“المغرب بلد الأولياء الصّالحين”.. مقولة تعكس المكانة الخاصّة التي يحظى بها التصوّف في المملكة المغربية، التي يمتدّ فيها الفكر والسلوك الصوفيان إلى أزمنة بعيدة..
لو كنت مواطنا مغربيا، لربّما ساقتك الأقدار لأن تُجاوِر أحدَ هذه المباني الصّغيرة المسمّاة “الزاوية”. فيها تقام الصّلوات الخمس في أوقاتها، باستثناء صلاة الجمعة. كما يُتلى في هذه “الرّباطات” القرآن وتقام العديد من العبادات التعبّدية الأخرى.
بمناسبة شهر رمضان المبارك، تقترح عليكم “Le12.ma” رحلة تاريخية في رحاب أشهر الزوايا والطرق الصّوفية في المغرب.
تعود أصول الطائفة العيساوية إلى محمد بن سليمان الجازولي، وتشتهر باستعمالها للأمداح بصوت عال وباستخدام الموسيقى. وتعتمد الموسيقى العيساوية، التي هي امتداد للمذهب الصوفي العيساوي، على تعاليم هذا المذهب وتتغنى بقصائده وأمداحه الصوفية. فللموسيقى العيساوية ميزة مخاطبة الروح والجسد وتعطي الأولوية للإيقاع، خلافاً للطرق الصوفية الأخرى التي تعتمد على ذكر الله ومدح الرسول فقط.
والطائفة العيساوية فرقة صوفية مغربية أسّسها الشيخ الكامل محمد الهادي بن عيسى المغربي (ولد في قبيلة أولاد أبي السباع في 872 للهجرة وتوفي في 1524 م ودفن في مكناس).
إن البحث في تاريخ زاوية عريقة من زوايا القرن 10 هـ / 16 م يكتسي، بحسب عبد العزيز عموري، أهمية كبرى على عدة مستويات، أبرزها كونه يكشف النقاب عن وضعيتها في النسيج الصوفي العام، ودورها في تفعيل المجال الذي تنتمي إليه، وعلاقاتها بمكونات المجتمع. وقد تجلّى حضور الزاوية العيساوية في مختلف نواحي الحياة، روحياً واجتماعياً وسياسياً، وفق المصدر نفسه، عبر مشاركتها في التخفيف من وطأة الندرة والكفاف في مطلع العصر الحديث، والانخراط في تقرير مصير البلاد، إلى جانب باقي مكونات الحركة الطرائقية من مجاذيب وملامتية، وشيوخ الزوايا، ولو بنصيب، وتوفير الملاذات الآمنة للناس في وقت كان الخوف سيداً، ومن المجهول على وجه التحديد… ورغم كل هذا، ظلّ عيساوة مغيبين من دائرة التأليف التاريخي، وهو موقع لا يتوافق البتة مع تلك الأدوار التي كانت تضطلع بها الزاوية والخدمات التي قامت بها لمختلف الفئات الاجتماعية.
وتابع عموري أنه إذا كان البحث في عيساوة مهما قصد إماطة اللثام عن أحد مكونات الحركة الصوفية في المغرب، فإنّ ما يثير الانتباه هو غياب شبه مطلق لدراسات تناولت هذه الفئة من المجتمع بالتحليل والتتبع، إن في فترة التأسيس، أو في الفترات الموالية.
للّيلة العيساوية، التي تعد من أهمّ كا يميز هذه “الطائفة”، طقوس وتفاصيل مقدسة تبتدئ بالدخلة، إذ يقف أفراد الفرقة العيساوية أمام المنزل الذي يقام به الحفل، ويقومون بذكر الله، ويجري استقبالهم من طرف المحتفلين في الخارج خلال ترديد الفرقة لـ (حنا جيناكم يا ناس الدار نسعاوا على أبوابكم نسعاوا الله الكريم ويسقينا من حوضكم) حتى يصل الناس إلى حد أقصى من التشويق ثم يدخل العيساويون بالأعلام والمبخرة مع ذكر الله (الله دايم، الله عظيم).
مرحلة التقيِيلة، التي تنطلق بعد دخول الفرقة لوسط المنزل، يبقون خلالها واقفين لفترة معينة وهم يرفعون الفاتحة (الدعاء) لأهل البيت، ثم يجلسون ويتابعون ذكر الله، ومن ثم تأتي مرحلة الحضرة، إذ تجعل كثرة المدح والإيقاعات الصوفية من يعانون من ضغوط نفسية على تفريغ مكنونات أنفسهم بالجذبة، وهي تمايل بالجسد عند وصول مرحلة من النشوة الروحية.
وقد توارثت عائلات عدة، خصوصاً الفاسية والمكناسية الموسيقى العيساوية، وحافظوا على الإيقاعات مع القيام باجتهادات معينة، لكن جرى تغيير في طريقة اللباس، إذ عوضت الجلابيب المنمقة الحنديرة، وهو قميص يصنع بمواد بسيطة تعكس مستوى عال من الزهد والتصوف، وكان يلبسها مريدو الطريقة العيساوية الذين يسمون فقراء، وظل يضعها إلى الآن أعضاء الفرق العيساوية ممن يقوموا بالتمايل على أنغام تلك الموسيقى، بينما أصبح العازفون يلبسون الجلابيب والعمامات، وهذه الأخيرة وحدها تشكل شرطاً لالتحاق كل عضو بالفرقة، بالتالي لا يمكنه مرافقة المجموعة إذا لم يكن يرتديها.
تُشترَط لدخول عالم الموسيقى العيساوية، وفق المصدر نفسه، شروط ومناهج دقيقة، بحيت إن المولع بهذا العالم يكون له الشغف منذ الصغر ويُشترط على الأطفال خلال المرحلة الأولى الجلوس والاستماع من دون التحرك أو التكلم لكي لا يحدثوا ضجة قد تؤثر في مسار الليلة العيساوية، كما يجري تعليمهم تدريجاً جوهر الطريقة التي تعتمد على الانضباط والروية واحترام الآخرين، وبالخصوص أولئك الأكبر سناً ومنزلة داخل الجماعة، ومن تجليات ذلك الاحترام تقبيل الوافد الجديد لكتف معلميه عندما يمنحونه آلة موسيقية معينة، إيذاناً بأنه وصل مرتبة تؤهله الالتحاق الفعلي بالفرقة الموسيقية.
وتنتسب الطريقة العيساوية إلى محمد بنعيسى، الذي عاش بمدينة مكناس وبها كان يبث تربية صوفية إلى أن توفي سنة 1526، احتفظت الذاكرة الشعبية بصورة عن هذه الشخصية كرجل صالح وأستاذ روحي. والتصق به لقب «الشيخ الكامل» إلى اليوم، لما كان يربي عليه المريدين من عمق روحي عن طريق العناية الخاصة بالذكر وتلاوة القرآن وسرد الأمداح والصّلوات على رسول الله تؤدى الأناشيد والألحان عند عيساوة بالاعتماد على الدقات بواسطة آلات التعريجة، الطاسة، البندير، الطبلة، الدف، وأبواق النفير، وعبر أداء جماعي ولحن انفرادي. ويشتهر شعبيا عن هذا النسيج الموسيقي أن له وقعا خاصا على المستمعين، الذين قد يحدث عند بعضهم انفعال خاص، وأن له مؤهلات استشفائية لبعض الأحوال النفسانية تتم إقامة حفلة عيساوة في المناسبات الدينية كالمواسم وعيد المولد النبوي وعشية الجمعة بعد صلاة العصر أو في مناسبات اجتماعية كالعقيقة وحفل الزواج أو الختان وتبقى أعظم مناسبة لطائفة عيساوة هي مناسبة الاحتفال بذكرى الشيخ المؤسس، بموازاة مع احتفالات عيد المولد النبوي الشريف، حيث تتجمع كافة الفرق العيساوية ومريدوهم من مختلف أقاليم المغرب في أيام بهيجة مملوءة بالتسبيح وبالأناشيد والعزف والرقص.
وتتخلل هذا الموسمَ بعضُ من تقاليد الطريقة العيساوية، التي تعود إلى تقاليد صوفية أو إلى بعض الممارسات الشعبية المتجذرة يختلط فيها الإيمان مع الطموح إلى إظهار صفات الشجاعة وقهر الطبيعة، والطموح إلى التعامل مع أرواح العالم غير المرئي. وإذ كان كل هذا لا يعتبر شيئا أصيلا في عالم الروح والتصوف فإنه مع ذلك أكسب شهرة شعبية واسعة لفرق الطائفة العيساوية، وجعل بعضها يبحث في سبيل تنقية الممارسة للتقاليد وتحسين الأداء لها بتطعيمها مثلا بموسيقى الآلة الأندلسية والملحون أو بالتأكيد على المعنى الديني فيها، كما هو الشأن بالنسبة لفرقتي فاس ومكناس.
الطقوس العيساوية تعتمد على الجدبة كمكون اساسي وهي تشبه الشطحات الصوفية ويتم فيها المنادات على الاولياء وشيوخ الطائفة المتوفين وفي اغلب الاحيان تكون اغماءات من طرف النساء ويتوجب احضار معزة تقدم كقربان للجواد أو صحاب المكان والجواد في الثقافة الشعبية المغربية هم الجن تاخذ المعزة خلال مراحلة من الطقوس لتقدف في السماء من طرف عيساوة ويتم تفريق اطرافها وهي طائرة واراقت دمائها دون سكين فقط عن طريق الجر والشد ويشرب البعض من دماءها خلال الحضرة اغلب المغاربة لايؤمنون بهذه الطقوس ويلجأ إليها البعض.
وتعدّ الطريقة العيساوية، بحسب مقال لنوفل الشرقاوي، من أبرز المذاهب الصوفية التي ظهرت في العصر الحديث، خلال القرن السادس عشر، على يد الولي محمد الهادي بن عيسى، وهي امتداد للطريقة الجزولية التي ظهرت خلال القرن الثالث عشر على يد الإمام أبي الحسن الشاذلي. وتعتمد الطريقة العيساوية على الطهر والصفاء في سبيل التقرب إلى الله ورسوله، ويظهر ذلك الصفاء في اعتماد مريدي تلك الطريقة خلال حلقات الذكر على ترتيل القرآن والأوراد ومدح الرسول عليه الصلاة والسلام، إضافة إلى الابتعاد عن الشوائب العقائدية، وكذلك اعتماد نظام توجيهي من أبرز سماته احترام الآخر وتقدير الأشخاص الأكبر سناً وطاعة المعلمين.
وعلى الرغم من قلة المراجع التاريخية عن الولي الهادي بنعيسى، يتابع الشرقاوي، فإن المؤرخين الذين تحدثوا عنه أجمعوا على أنه كان عالماً كبيراً وفقيهاً حكيماً، أثر في أجيال بكاملها وتجاوز إشعاعه الفكري وطريقته الصوفية حدود المغرب، إذ وصل إلى بلدان المغرب الكبير كافة ومصر.
ووُلد الهادي بنعيسى أو الشيخ الكامل في 1467 بمنطقة سوس، وحظي في صغره بتربية جيدة وعناية فائقة من أخواله ووالده الذي رافقه إلى مدينة فاس (العاصمة العلمية للمغرب) من أجل تجهيزه للدراسة بجامع القرويين، ساعدته سرعة بديهته في حفظ القرآن الكريم في مدة وجيزة، ومن ثم انتقل إلى دراسة العلوم الشرعية والأدبية، وبرع في اللغة العربية والفقه والتفسير، إلى أن بلغ درجة معرفية شرعية مرموقة ومكانة عالية في الزهد والتصوف، وأصبح عالماً دينياً يدرس ويفتي، واتسم الشيخ الكامل بغزارته المعرفية الدينية وبحكمته وباتباعه منهجاً دينياً صافياً خالياً من الشوائب.
وتتلمذ الشيخ الهادي بنعيسى، وفق المصدر المذكور، على يد وارث سر الطريقة الجازولية الشيخ أحمد الحارثي، الذي ساعده على تعلم روح تلك الطريقة الصوفية، حتى لقب بالخليفة الجليل وأصبح من أهم أقطابها بالمغرب، انتقل بعد وفاة معلمه إلى مراكش لملاقاة الشيخ عبد العزيز التباع، الذي كان من أهم أعلام الطريقة الجزولية، وأولاه اهتماماً وتقديراً كبيرين، وكشف له عن خبايا الطريقة، إلى أن أصبح الولي الهادي بنعيسى خليفة الطريقة الجزولية، والتي ستصبح في مجملها تسمى بعد وفاته بالطريقة العيساوية، انتشرت تلك الطريقة الصوفية بقوة في كل الدول المغاربية التي لا تزال موجودة بها حتى الآن وكذلك في مصر، ودفن الهادي بنعيسى عام 1526 في ضريح بمكناس الذي يعتبر الأشهر من نوعه في المغرب.
ويقول الشيخ أحمد الخليفي في كتابه “الأنيس الجليل في طريقة ومناقب سيدي محمد بن عيسى القطب الكامل”، وما كاد أن ينتهي من علوم الشريعة حتى كان قد تأثر بالحكمة والحقيقة لا سيما والطريقة الجزولية الشاذلية قد عرفت حركة روحية عالية، فجاءت أحزابه الأورادية المتعددة جامعة لما نهجه في حياته العلمية وما تلقاه عن مشايخه، لا سيما بعد اعتناقه طريق القوم ووروده موردهم كما في قصائده الشعرية سواء في توسله أو في التحدث بنعمة الله تعالى عليه، فقد نهل من البحرين وارتوى من المنهلين وقضى حياته ما بين التدريس والفتوى وتربية المريدين بزاويته.