هكذا كان الدين استجابة لحاجة مفروضة، وتكميلا لنقص تقف الإنسانية عند هوته موقف الجامد المتخاذل، وبيانا لخطة في الحياة يظل الإنسان عن ترسمها متحيرا هيمان. وإرشادا لطريق تقف الجماعات الإنسانية في بدايته، وهو سبيلها الأوحد للعروج في ميدان التطور والحياة.
تقديم -عبد الرزاق المراكشي le12
عُرف المغرب، منذ عهود، بإسلامه المعتدل، الذي يمتح من ينابيع قيَم التسامح والتكافل والتعاون التي طبعت الإنسان المغربي الأصيل، قائما على ركائزَ متينة تقوم على السجيّة المغربية، التي يسير وفقها كلّ أمر في الحياة بـ”النية“…
اخترنا لكم في “Le12.ma” وقفات مع ثلّة من الأقلام المغربية التي أغنت ريبرتوار الكتابات المغربية التي تناولت موضوع الإسلام المعتدل الذي انتهجته المملكة المغربية منذ القدم، والذي أثبت توالي الأيام وما تشهده الساحة السياسية العربية والدولية أنّ هذا الإسلام “على الطريقة المغربية” لم يكن بالضّرورة قائما على “الصّدفة (النيّة) بل تحكمه أعراف وقوانين وتشريعات واضحة المرجعيات والخلفيات وواعية تمامَ الوعي بأنّ الإسلام… (آية قرآنية) و”الإسلام دينُ يُسر وليس دين عُسر” وأنْ “ما شادّ أحدَكم الدين إلا وغلبه“.
ونتوقف في هذه الحلقة من سلسلتكم “إسلام مغربي” مع قلم مغربي آخر هو محمد الحبيب في مقالة بعنوان الدين تحرير وبناء.
ونشير إلى أن هذه المقالات منشورة في الموقع الإلكتروني لمجلة “دعوة الحق“.
لا مراء أن الإنسانية تسير عبر الزمان وهي متفاعلة مع ظروف الحياة وأوضاعها، مؤثرة ومتأثرة بكثير من بيئات الزمان والمكان، وعوامل النفس والاقتصاد والاجتماع ومحكومة بدوافع الغرائز، وإيحاءات العواطف والرغبات.
وكلما تخطت الإنسانية مرحلة من الزمان – لا ندحة أن تجد نفسها ملفوفة بركام من المخلفات والرواسب وجملة من الأوضاع والعقائد والمسلمات، من شأنها أن تطوق العقل، وتقيد الفكر، وأن تخنق الضمير وتغل الوجدان، وبالتالي تصادر إمكانيات العقل، وتشل طاقات الاندفاع الخيرة نحو التكاتل والاستصلاح.
ومن شأن هذه الحالة بعد كل مرحلة من التاريخ أن تضع الإنسانية في حاجة إلى استصلاح، وأن تجلى من أوضاعها المادية والروحية، مظاهر العجز الذي يدور بالحياة كلها، دورة مكرورة ممجوجة، ويعوق حركة التاريخ أن تسير بالإنسان إلى الأمام والذي يجعل من قضية التكامل الإنساني قضية لا تفهم ولا يتبين أحد نحوها السبيل.
وهكذا كان الدين استجابة لحاجة مفروضة، وتكميلا لنقص تقف الإنسانية عند هوته موقف الجامد المتخاذل، وبيانا لخطة في الحياة يظل الإنسان عن ترسمها متحيرا هيمان. وإرشادا لطريق تقف الجماعات الإنسانية في بدايته، وهو سبيلها الأوحد للعروج في ميدان التطور والحياة.
وكان الدين أكثر من ذلك وأعم تنظيما عاما لشؤون الحياة الإنسانية، وهندسة عملية لمناهج التعايش والسير في الحياة، وتقويما سليما لانحرافات العواطف والفكر والوجدان.
وهكذا يأتي الدين بعد مرحلة من فوضى العقل والعاطفة واضطراب شامل في أوضاع النفس والحياة، فيكون في المجتمع الذي يحله تحريرا للضمير والفكر، وإطلاقا لطاقات الوجدان الإنساني والوعي الكريم فيه، وتحطيما لكل قيود النفس والضمير التي تفسد الإنسان، وتجعله ينساق في غير وعي مع عواطفه وغرائزه.
ومن جهة أخرى يأتي الدين فيكون تنظيمة واعية شريفة للعواطف والمشاعر، وتهذيبا للمنازع والرغبات، وتقويما لميول النفس وأهوائها، وفي نفس الوقت تنسيقا حيا لعلاقات الناس، وتقديما لتصاميم متقبلة تنتظم مناهج الحياة كلها، وفروع الحركة فيها.
وكذلك كان الدين في تاريخ الإنسان – ولا يزال – ثورة روحية وفكرية تهدف هدفين أساسيين:
أ) – تحرير الإنسان من أغلال النفس وقيود الضمير والفكر والوجدان؛
ب) – وبناء الحياة الإنسانية بناء تقدميا يهدف تجنيد جميع إمكانيات الخير، وطاقات الاندفاع في الإنسان لاستفراغها في اندفاعة واعية للضمير والفكر، وانطلاقة إنسانية حرة.
كانت حركة كونفوشيوس انطلاقا مثاليا، وثورة مكبوتة من الأغلال التي كانت تفرضها سلطة الإمبراطورية ابن السماء في أرجاء الصين.
على حين كانت «الطرق الثمانية» وتجعل بداية المعركة هو الانتصار على النفس عند البوذيين حركة داخلية، تبتدئ ثورتها من أعماق النفس. ولا قهر نوازعها، دون أن تلقى لعالم العلاقات الخارجية والحياة الاجتماعية للفرد أي اهتمام. ولذلك ظلت تتردد في عالمها الداخلي فلم تستطع أن ترج الحياة الإنسانية الرجة المنتظرة، فتفتح أمامها طريقا واضحا معبدا.
وقد حصر كل من كونفوشيوس وبوذا نطاقه في الأرض وفي النفس الإنسانية ولم يرفع أي منهما بصره نحو السماء ليربط بأية خيوط كانت، الأرض والسماء. ولذلك كانت ديانتاهما إنسانية، ولم تكن ديانات إلهية .
وقد جاءت المسيحية فحاولت أن تمد من الأرض سببا نحو السماء وتربط الناس إلى الله بواسطة، ولكن شاء أتباع عيسى أن يكون عيسى نفسه هو الواسطة فخلقوا فكرة (النبوة) وربطوا عليها قنطرة بين الأرض والسماء. أما الحياة الإنسانية وتنظيمها فلم ينل من اهتمام المسيحية إلا القليل.
ثمت جاء الإسلام، وقد درجت الإنسانية في مراحل، وكسبت من معابر الزمان خبرات وتجارب كما تراكمت في حناياها جميع رواسب الأزمان الخالية والقرون الغوابر وناءت الحياة الإنسانية: عقلها وضميرها ووجدانها وعواطفها وغرائزها تحت سطوة كثير من الرواسب، ورحمة غير قليل من القيود والأغلال، المادية والمعنوية.
جاء الإسلام ثورة عارمة على هذه الأوضاع كلها، ثورة تحريرية جارفة في ثلاثة ميادين:
–في ميدان علاقة الإنسان بالله؛
–في ميدان وجود الإنسان ككمية من المدارك تجمع الفكر والضمير والعاطفة والوجدان؛
– في ميدان العلاقات الاجتماعية بين الناس بعضهم بعضا؛
–مظاهر شؤون الحياة ومرافقها كلها.
أما في الأولى فقد حرر الإسلام علاقة الإنسان بالله من جميع الوسائط كيفما كان نوعها، وأخضعها من الناحية المبدئية لمنهج اقتناع الفكر وحساسية الضمير، وإيمان الوجدان، ثم حرر الإنسان من جميع التأثيرات الأخرى، وأسلمه لعقله ووجدانه ليفتحا من تلقائهما نافذتهما الشخصية نحو الله، ووضع عقيدته هنا تحت مسؤوليته الشخصية الخاصة.
وأما في الثانية فقد حارب رواسب الماضي ومقاييسه كلها، وحرر من جميع الأغلال التقليدية التي من شأنها أن تقيد الفكر وتكبت الوجدان أو تحول دون تفتح جميع المواهب والإمكانيات الفاضلة في الإنسان، ثم فتح في وجهه آفاق الفكر كلها وأسلمه إليها حرا طليقا، ليبني حياته على أسس واقعية من المنطق، وعلى دعائم من تجاربه ومرانه المتجرد، وعلى الغرار الذي يختاره هو، ويرى أنه المفيد الصالح، على حين ألغى العبودية للعواطف والاستسلام للشهوات والأهواء، ونضد المتع البريئة كلها بين أيدي المؤمنين.
أما الثالثة فقد جاء الإسلام إلى جانب كونه ثورة روحية لتحطيم مظاهر العبودية كلها: الفكرية والعقلية والنفسية والاجتماعية. جاء تنظيمة اجتماعية، وتشكيلا جديدا للمجتمع الإنساني على وتيرة تفتح له دائما إمكانيات النمو والتطور وتدع له جميع المجالات للتفتح ومسايرة الحياة كلها عبر الأمكنة والأزمنة، إذا اكتفى بالتصميمات العامة يضع بها الأسس والقواعد، والخطوط الكبرى ويحدد الاتجاه العام الذي يجب أن تنحوه حياة الإنسان ثم ترك له تشكيل هذه الأسس وتلوينها حسب ظروفه وإمكانياته.
وهكذا كان الدين حرية في الفكر، وطمأنينة في الضمير والعقيدة وهدوءا في النفس والنزعات وطهارة من العبوديات بجميع أنواعها، كما كان في نفس الوقت بناء للحياة الإنسانية، وتنسيقا واعيا لعلاقات الناس وتشكيلا للمجتمع الإنساني على أسس من هذه الحريات، ودعائم من الاتجاهات المنهجية الواضحة في مستقبل الإنسان.
أما كيف استحال هذا الدين وتطور في مراحله التاريخية، وكيف أثرت هذه العناصر الروحية والمبدئية الكامنة فيه حتى في ثورتنا المغربية الحالية وكيف أن هذه العناصر هي رمز قوته والضمان الأكيد لمستقبله، فذلك كله هو موضوع القسم الثاني من هذا الحديث.