لم نعرف السرّ حتى عدنا للخيمة قبل الفطور لنسمع الكبار يتحدثون عن زلزال مدمّر أتى على مدينة « ݣادير » كما كان ينطقها العامة عندنا .

في يوم 29 فبراير من سنة 1960، يوم زلزال أكادير، كنا لا زلنا صغاراً نرعى الأبقار بضَاية الرّحبي ضاحية  سيدي بنور.

 يوم ماطر وشديد البرودة نتضور جوعاً بسبب قلّة الأكل في ذلك الزمن القاسي وصُعوبة الأهالي لإعالة عائلات متعددة الأفواه رجالاً ونساءً وأطفالاً وأبقاراً … 

كان  المغرب، قد خرج للتو من بين مخالب إستعمار غاشم أتى على خيرات البلاد ومول بها شعبه وجيشه أثناء الحرب العالمية الثانية فيما سمي بعام البون وعام الجّوع وعام يرني وعام رويزة … وغيرها من الأعوام السّوداء بتسميات مختلفة ومتنوعة لموضوع واحد هو البؤس والجوع !.

نفاجَأ بطائرات بألوان وأشكال وعلو أو ارتفاعات غير متشابهة، أغلبها بفجوة كبيرة في مؤخراتها مع أخرى تمرّ مقتربةً من سطح الأرض.

 إعتقدنا جازمين بأنها تحمل الملك محمد الخامس عرفناه كما توهمنا من خلال طربوشه الأبيض بحفرة متقنة بوسطه … لأن أية طائرة تمرّ على علوّ منخفض كنا نعتقد أنها تقلّ الملك كما كان يعتقد العوام أن أثناء نشرة أخبار الرّاديو يكون الملك هو الذي يخطب !

لذلك على الجميع التزام الصمت المطبق … أقسمنا جميعاً بأغلظ أيماننا الطفولية الخيالية بأنه كان يلوّح لنا بيديه الكريمتين … 

لم نعرف السرّ حتى عدنا للخيمة قبل الفطور لنسمع الكبار يتحدثون عن زلزال مدمّر أتى على مدينة « ݣادير »كما كان ينطقها العامة عندنا .

لتستمر الطائرات لأسابيع أخرى تمرّ من فوق أكواخنا ورؤوسنا في وقت لم نكن نرى فيه سوى طائرة ولد كارنو carnot من أذناب وفلول المتخلفين عن الركب بعد أن غادر الجميع إلّا من ظل معجباً بخصوبة تربة البلاد وجمال نسائها الساحر والفاتن …

نمسي ونصبح على هدير الطائرة الحمراء وهي تذهب في الصباح شرقاً نحو اولاد عمران حيث ضَيعته الزراعية . 

بعد الظهر تعود غرباً نحو عين الغرّ حيث بساتين البرتقال لتوفر الماء في المنطقة بعيون سطحية متدفقة لم تعد اليوم موجودة بسبب استنزاف الفرشة المائية إلى الأبد …

بعد سنوات قليلة اختفت طائرة ولد كارنو دون أن نعرف السبب . بينما كان أهلنا يعرفون بأنه قُتل غدراً لأسباب تتعلق بالنساء سنة 1963 لكنهم كانوا يتحدثون سراً في أمور بالغة الخطورة ولما ندخل يصمتون .

السبب انعدام الثقة في المخزن والأمن في وقت كان الخونة يخطفون من أمام قصر الملك وهم يهمون بالدخول لحضُور احتفال أو اجتماع استدعوا إليه بهدف الانتقام من قياد ومسؤولين وموظفين اعتبروا متعاونين مع الاستعمار الفرنسي …

 مرت أيام قليلة فبدأنا نسمع عن أطفال أصبحوا يعيشون داخل عائلات لم يكن لها ذكور أو إناث فوزعهم المسؤولون على من طلب ذلك اتقاءً لتشردهم لأنهم أصبحوا يتامى بدون آباء أو أمهات … 

لكن عند الغضب ينعتون بالحراميين اللقطاء لأن لا أحد يعرف أصلهم وظلوا دائماًيشعرون بالوحدة والاغتراب …

 أما زلزال سنة 1969 فقد حدث ليلة 28 فبراير وليلة عيد الأضحى، وكان مركزه بعمق لشبونة البرتغالية.

لذلك شمل الاهتزاز والرجفة أو الجنجافة كما سماها المصطفى أخويا .. كل مناطق المغرب من شماله حتى جنوبه  …

  لم نتمم طوَافنا مع سبع بلبطاين المهرجان الاحتفالي الليلي الذي يقيمه رجال وشباب الدوار مع لبسهم لجلود الأضاحي المذبوحة في الصباح . بسبب البرد القارس في بداية الربيع الممطر بغزارة في ذلك الزمان الخصب . نمنا مبكراً إلى جانب أمي في جو من السعادة والفرح كما كنا دائماً منذ طفولتنا الأولى . 

أما الآن فقد كبرنا وعدت من سيدي بنور من أجل عطلة العيد لتشرع الأرض في التحرك بقوة وتوقظنا من النوم وأجسامنا ترتج بقوة ببعضنا البعض . دون أن يعرف أحد ما يحدث . لتنطق أمي بالشهادتين وتتساءل: لكن لاّ غادين نموتوا ! هدير غريب وقوي ومزعج يتنقل من الشرق نحو الغرب كصوت طائرة نفاثة تسير بسرعة فائقة . 

روعت الكلاب وكل الحيوانات تزمجر لتختلط الأصوَات ويعم الرعب . مشهد من مشاهد يوم القيامة كما عرفناه من خلال قراءة القرآن الكريم بمسجد الدوار .. 

لا زال الصوت يتنقل غرباً نحو القرى والدوَاوير البعيدة ليمزق صَمت الليل قبل الفجر فتندلع أصوات حيواناتهم كما روعت حيواناتنا من قبل !.

جو من الصّخب والرعب رغم سطوع القمر وجريانه المعتاد من خلف ضباب البحر الخفيف.  

فجأة يدخل أخي سي محمد علينا بدون استئذان لعدم وجود موانع من الخلاء الفسيح حتى قلب الخيمة الشاسع.  

هو الذي يسكن في بيت صَغير على مشارف القاق بݣاعة سي عبسلام ولد سي عباس.

 وجهه يبرق من شدة سطوع ضوء القمر .  مرعوب يتحدث بشكل مسترسل لا يترك المجال لأحد كي يتكلم أو يعقب..  حسيت بحال شي واحد يهزني ويحطني ويلوحني ويطيحني..  

لم نعد في تلك اللحظة خائفين مرهوبين . بل انخرطنا في موجة من الضحك الصاخب لشدة رعب أخي الأكبر الذي كنا نظنه شجاعاً مقداماً لا يخيفه شيء.

لكنه بدا كطفل صَغير ترك وحيداً في خيمة معزولة.  ترتعد فرائصه وأسنانه البيضاء البارزة تلمع بشدة تحت بريق نور القمر الجميل… 

لم يكن لدينا ما ينهار على رؤوسنا لأننا ننام في أكواخ من الحطب والهايشر لبرومي . 

لكن ما كنا نخافه بشدة أن ينفتح سطح الأرض ويبتلعنا جميعاً نحو الصهارة الحامية ثم ينغلق إلى الأبد !  هكذا فكرنا.. 

في الصّباح لا حديث في الدوار إلا عن الزلزال العنيف الذي ضرب المغرب. 

لم يكن لنا مذياع كي نعرف الحصيلة والأسباب وموقع الزلزال.. فقط أخبار محلية عن السي طاهر الذي اعتقد أن من كان يهزه ويرجه بقوة وعنف هو سبع بلبطاين ليتوسل إليه بلطف شديد : آتّا حطّني آسبع بلبطاين الله يرحم والديك.. 

نوادر كثيرة عن الزلزال بقينا نسمعها في الحلاقي.. 

عدنا لسيدي بنور بعد أيام لنجد الخوف والتوجس لا زال ساري المفعول . 

إذ كان يكفي أن يطلق طفل إشاعة بأن الليلة سيكون الزلزال ليبيت الجميع في الشارع بالعراء .. 

ربما ليس بسبب الخوف وإنما عشق الناس التجمع والسمر وإثارة القفشات والنكت حتى الصباح بسبب الانعزال وانطواء الأسر على نفسها..

 تجارب وذكريات جميلة تعرفنا من خلالها على طبائع الناس وهشاشتهم النفسية الطفولية أمام خطورة الموت والمصير الوجودي والميتافيزقي المجهول رغم ما يبديه البعض من مظاهر للشجاعة الزائفة.. 

  يُتبع

 *حسَن الرّحيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *