وصل الأمر، في حالة الوالد امبارك، أنهم قدّموه في صورة شخص هائج قام بتحريض حشد من نساء ورجال غاضبين وأنه هجم بهم على مفوضية الشرطة واقتحم دهاليزها بغرض “تحرير” شقيقيَّ عبد الرزاق ومصطفى من زنزانتهما، حيث كانا معتقليْن بنفس التهمة الشهيرة من زمن الحسن الثاني

*أحمد نشاطي

في كل وقت تذكره شريكة عمره وتذكّرنا به، في الصباح، تقول: “كان كيجيب لي الخبز سخون”، وسط النهار، تقول: “كان كيجيب لي الماندرين، والفريز”، وفي السوق الأسبوعي، يوم الأحد، تقول: “كان كيجيب لي الحوت مقلي”، وقد تحكي إحدى نوادره، فنضحك لها جميعا، وتتنهّد وتقول: “معمرو خسّر لي خاطري، معمرو خاصم علي ومعمرني غضبت وخويت الدار”، وعندما تمرض كان يجلس “على راسها”، ويتجاذب معها أطراف الحديث، وإذا لم تظهر عليها بعض أمارات التعافي، كان يصيبه الكدر، وأحيانا كان يبكي…

مات الوالد الحاج امْبارك وترك وراءه الوالدة الحاجة فاطنة…

بعدما كانا لا يفترقان.. وبعدما بات مشهدهما اعتياديا وهما يتمشّيان معا يدا في يد، دائما كانت اليد في اليد، خلافا لجيلهما القادم من عروبية بلاد احْمر، حيث كان الرجل يسبق المرأة بعدة خطوات…

كان المشهد تعبيرا عن تمرّد عميق ضارب في الزمن…

ظهر التمرّد منذ كانا في مقتبل العمر، حيث كان الوالد امبارك يقود قافلة دوار البلاعدة لملء براميل الماء المرصوصة على الحمير والبغال من بئر معروفة تقع بين اليوسفية والشماعية،، وكانت الوالدة فاطنة تسير على خطى والدتها هنيّة، التي كانت كبيرة الدوار بنت كبير دوار الشهيدات، إذ كانت جدّتي هنية، التي كنا نناديها “دادا”، حكَمةً مسموعة الكلمة بين سكان الدوار، تفصل في منازعاتهم وتفض الاشتباكات وتقدّم المشورة في الزرع والضرع… كانت الوالدة تقود قافلة دوار الشهيدات للاستسقاء من البئر نفسه…

كانت العلاقة بين الدوارين اللدودين متوتّرة، وتتخلّلها الكثير من المشاحنات، كان دوار الشهيدات يستأسد على باقي الدواوير بقوته وتوسّعه حتى أصبح هناك الشهيدات الفوقانيين والشهيدات التحتانيين… وكان دوار البلاعدة لا يكفّ عن منازعة الشهيدات حول أسبقية السقي من البئر…

وخلال هذه الاحتكاكات، ستننشأ علاقة تقرّب وإعجاب وتواطؤ وتماهي بين الفتى امبارك المزهو بقوته والصبية فاطنة المتباهية بالجمال والزعامة… والقصة سبق أن حكيت تفاصيلها، التي توّجت بزواج رغم أنف العائلتين والدوارين المعترضيْن والرافضيْن، ما جعل الزوجان يتركان للعائلتين الجمل بما حمل، ويغادرا الدوارين معا، ليسكنا في دوار (حيّ) لوبيرات، وبعده حي الفوّارات، قبل أن يستقرّا بحي السمارة، الذي سيشهد تكوّن نسل نشاطي والروماني…

منذ ذلك الوقت، الذي كان الوالد عاملا فوسفاطيا، إلى الوقت الراهن حيث أصبح من متقاعدي المكتب الشريف للفوسفاط، ظل الوالد يوزّع بسماته وضحكاته المجلجلة دون حساب، يقف مع الجميع، عند الحاجة، ولا يتأخّر عند كل ملمّة، ولو استدعى الأمر الدخول في معارك كان ينتصر فيها دائما على خصومه بقوة ضرباته ولكماته، حتى أصبح بعضهم يطلقون عليه لقب “ݣوفال”، لأنه كان “ينفخ” خصومه “عْصَا”، ودائما انتصارا لمظلومة أو مظلوم، قبل أن يطوي هذا الجانب من حياته بعدما أصبح أبناؤه وبناته يزدادون الواحد تلو الآخر، لكن الوقوف مع الناس، سلميا ودون عنف، ظل دائما خصلة فيه…

وعندما اقتحمتُ العمل السياسي وأنا مراهق، كان يخاف علي هو والوالدة التي حذّرتني يوما مستفزّة فيّ عاطفة الأمومة بالقول: “هاذ المرّة أوليدي إلى شدّوك البوليس غنلوحْ راسي في بِيرْ”… 

كنت أعرف، وهي والوالد يعرفان أنني أعرف أنهما لن يتخلّيا عني، ولم يتخلّيا يوما، رغم ما تعرّضا له من مضايقات واستدعاءات وتهديدات مرفوقة بأخبار الملاحقات التي كانت تفرم فيها وفي الوالد اللحم والروح والأعصاب… 

وظلا، الوالد والوالدة، ومعهما خالي الراحل السي محمد، الذي كان هو أخي الأكبر، هو الذي ربّاني وهو الذي حماني، وهو الذي كان يضعني في عينيه الجميلتين، ظلوا جميعا يفتحون البيت لكل رفيقاتي ورفاقي، سواء كنت بالمنزل أو خارج المنزل أو حتى خارج مدينة التراب اليوسفية

محنة الوالد، في هذا الصدد، لم تكن فقط بحكم وضعية أسرة فتى ملاحَق ومطارَد باستمرار، بل ذاق بدوره عسف السنوات الرصاصية الجديدة في العهد الجديد، حيث كان ضمن لائحة أزيد من أربعين شخصا من اليوسفية حوكموا بتهمة المس بالمقدسات وبموظفين (الشرطة) أثناء أداء مهامهم.

ووصل الأمر، في حالة الوالد امبارك، أنهم قدّموه في صورة شخص هائج قام بتحريض حشد من نساء ورجال غاضبين وأنه هجم بهم على مفوضية الشرطة واقتحم دهاليزها بغرض “تحرير” شقيقيَّ عبد الرزاق ومصطفى من زنزانتهما، حيث كانا معتقليْن بنفس التهمة الشهيرة من زمن الحسن الثاني…

حدث ذلك في شتنبر 2007، وما أنقذ الوالد أن محاكمته تزامنت مع محاكمة الشيخ أحمد ناصر، بنفس المحكمة ونفس التهمة ونفس المسؤولين الذين كانوا يحرّرون المحاضر، حيث جرت إدانة هذا الشيخ، الطاعن في السن (95 سنة)، بتهمة المسّ بالمقدسات، وصدر عليه حكم بالسجن النافذ 3 سنوات، وأثارَ الحكمُ ضجّة كبيرة داخل المغرب وخارجه، استفاد منها الوالد امبارك، الذي أُدين بنفس التهمة، لكن بالسجن موقوف التنفيذ، فيما ابناه، شقيقاي عبد الرزاق ومصطفى، لم يؤثّر الوضع على حالتيهما، فحصدا السجن النافذ، حيث جاورا الشيخ ناصر في زنزانته بسجن آسفي، وظلا يرعيانه إلى أن تقرّر نقله إلى جوار عائلته بسجن “العادر” الرهيب، الذي وضعت الدولة حدا له في مارس 2023… في هذا السجن، وبعد 6 أشهر فقط وراء القضبان، سيلفظ الشيخ ناصر أنفاسه الأخيرة…

درج الوالد على الاتصال بي هاتفيا بين الحين والآخر، فضلا عن الاتصالات التي تتم عبر الوالدة، وفي آخر اتصال كان قبل أسبوع على وفاته، بدأ الاتصال ثم قطعه كما اعتاد، فأتّصل به على الفور كما اعتدت، وفي المرّة الأخيرة، قال ضاحكا، وهو وسط العائلة مجتمعةً: “جيت نجبد التلفون وداز الخط بوحدو”، وسمعت الوالدة “تقبط” فيه وأجبته: “وغيرْ قولْ اشنو بغيتي وباراكا من القوالبْ”! فسمعت ضحكته المحبّبة، التي مازالت ترنّ في أذني إلى الآن، وأنا أتخيّل ملامحه كلما ضحك، حتى وهو يغادر الحياة في مصحة بمراكش، كانت ملامح وجهه تبدو بهيّة، وفي الكفن كان يبدو على وجهه نوع من النور ممزوج بالنوار، هل رأيتم في حياتكم نورا متوّجا بالنوار؟ أنا رأيته وطلبت من ابن أختي جلال أن يلتقط له صورة النور والنوار أحتفظ بها الآن وأعود إليها بين الفينة والأخرى…

وداعا والدنا الأعز امبارك نشاطي…

وبطول العمر والدتنا الحبيبة فاطنة بومارت…

مع كل الشكر والمودة لكل العزيزات والأعزاء على تعازيهم ومواساتهم التي كان لها أبلغ الأثر على معنويات كانت مهدودة بالحزن وألم الفقْد…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *