إنه «سي عزوز» ماسح الأحذية «السيرور»، الذي لا يملك من دنياه سوى صندوق الخشب «الطنجاوية»، والذي يجعل أحذية القوم أنظف وأبهى، التقيته في طريقي إلى «درب البلدية» في ليلة رأس السنة رفقة مجموعة من الأصدقاء ونحن نحاول أن نخمد «ثورة الجوع» في أمعائنا.
*طارق جبريل -كاتب صحفي
ونحن نودع سنة متعبة على كل المستويات آثرت ألا أرهق الناس بأوجاع انزلقت إلى قاع الذاكرة ولتكن حكاوي اليوم، شيئا مفرحا يبهج النفوس.
سأحدثكم اليوم عن رجل عصامي من تراب هذه الأرض الطيبة، ملح الأرض القادم من إقليم «دكالة» و«أربعاء العونات» وتحديدا من «الزاوية التونسية».
إنه «سي عزوز» ماسح الأحذية «السيرور»، الذي لا يملك من دنياه سوى صندوق الخشب «الطنجاوية»، والذي يجعل أحذية القوم أنظف وأبهى، التقيته في طريقي إلى «درب البلدية» في ليلة رأس السنة رفقة مجموعة من الأصدقاء ونحن نحاول أن نخمد «ثورة الجوع» في أمعائنا.
الصدفة وحدها قادتنا إلى مقهى في بداية شارع «جوج مارس» كي نكون في ضيافة حكاوي «سي عزوز».
قدم الرجل إلى الدار البيضاء وهو ما زال يتهجى الحياة في عمر السابعة عشر، دون أي تعليم يذكر، حيث كانت المدارس الحكومية تبعد أميالا عن «دوارهم» بل دون أية حرفة تعينه على العيش في مدينة غول.
لم يجد حرفة يبدأ بها حياته في «كازا» غير «صبي سيرور» لأن «تكاليف الإنتاج» بها كانت في متناول اليد، فقط صندوق خشبي «الطنجاوية» وبعض الأدوات البسيطة وعلب «السيراج»، توكل على الله واكترى غرفة رفقة «بلدياته» في «درب الفقراء»، قبل أن يتحول إلى «الحبوس» لاحقا.
كان يخرج قبل صلاة الفجر ليصليه قريبا من مكان رزقه، أخرج كل حياته من صناديق الماضي في القرية وفرشها في أزقة «كازا»، لم يشك مطلقا في فحوى مجيئه إلى الدنيا وكان على قناعة تامة أن الله سيجعل له مخرجا في «دار بيضاوة»، شاهد المدينة وهي تكبر وتتسع والمباني التي تنبت من الأرض كل يوم. بنى لنفسه سمعة طيبة وسط «الكليان»، كان البعض منهم يجودون عليه بأضعاف ما يطلبه في الحذاء الواحد.
حين أكمل الثانية والعشرين من العمر وجمع بعضا من المال قرر الرجوع إلى «الزاوية التونسية» ليكمل نصف دينه هناك ويأتي بـ«دكالية» تكون سندا وعضدا له على حياة المدينة الغول، تركها هناك وكان يزورها كل حين فأنجبت له ثلاث زهرات «دكاليات»، فقرر أن يأتي بهن إلى الدار البيضاء حتى يكون لهن نصيب من تعليم لم يجد له طريقا في قريته تلك، حصل على «براكة» في حي «الرحمة» دون كهرباء وصرف صحي في بداية الأمر وأحضر أسرته لتكون بجانبه.
حكى بعد كل هذا العمر كيف أكلته نهارات الوجع وليالي الفقر والعوز، لكنه لم يستسلم وأقسم أن تتعلم بناته الثلاث، قال وهو يخفف نتح العرق المتصبب إنه أخذ عهدا على نفسه أن يوصل زهراته إلى أعلى مراتب التعليم، كان مهدودا من الحزن على تعليم استعصى عليه، كان يحمل صبره المتعفن كل صباح عند صلاة الفجر ليعود إلى «براكته» عند صلاة العشاء ملفوفا في صبره وواثقا من رحمة الله، يؤدي الفرض ثم ينعم بـ«طياب مولات الدار» ويطمئن على دراسة كبدات فلذه ثم يغرق في نوم عميق ليبدأ فجر يوم جديد.
أنجز مهمة تعليم بناته حتى إن إحداهن الآن تعمل أستاذة وتواصل تعليمها فوق الجامعي، زوج اثنتين منهن وأصبح له أحفاد يسعد بزيارتهم له، فيما تواصل أصغر بناته دراسة الحقوق في الجامعة يواصل هو كده وجهده مع «الطنجاوية» غير مبال بما يدلقه بعض الصفقاء من كلمات جارحة وفيا لزبنائه الذين ساعدوه كثيرا في الأعياد وبدايات الأعوام الدراسية. سألته عن ليلة رأس السنة الميلادية وإن كان سيحتفل بـ«البوناني»، ضحك حتى بانت بعض لثته المهجورة من الأسنان وقال إنه لن يشتري حلوى «البوناني» وإنه سعيد بحياته وإنجازات بناته الدراسية.
إنا شاء لله.. «بوناني» «سي عزوز» وسنة سعيدة عليك، لمثلك ترفع القبعات.