عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 97

تفاصيلُ يوم في مهنة تَمّارة

 

الثامنة والنصف صباحا.. صوتُ المُنبّه يملأ المكان؛ لا خيارَ أمامي إلا الاستيقاظ. كنتُ قد لجأتُ إلى حيلة إبعاد الآلة الصّغيرة عن مخدّتي وعن مُتناوَل يدَيّ.. صرتُ أعرف عاداتي السّيِّئة التي اكتسبتُ، ومنها أنه تكفيني حركة آلية أُخمِد بها المُنبّهَ، ثم أعود إلى الوسادة، دون أنْ أشعر بذلك في الغالب، لأغرق مُجدّداً، كما حدث لي مرّات عدّة، في نوم عميق حتى وقتٍ مُتأخّر.

كان علي أن أقوم من مرقدي إن أنا أردتُ أن أضع حدّا للإزعاج الذي يُسبّبه لي المُنبّه ولصديقي الهاشمي، الذي حلّ ضيفاً عليّ منذ أيام؛ والذي راح، من الزّاوية الثانية للغرفة، يُحملق فيّ بعيْنيْه نصف المُغمضتَيْن.

أغيّر ملابسي وأنا أتناول قارورة الماء، أسكِنُ لهفة الجسد المُشتعل دخاناً ضاقت به، في الليلة الماضية، الرئتان وغرفة خلفية، في حيّ خلفي. أنزل الأدراج وأسير نحو “تَمّارة”؛ الأعمال الشّاقة التي كانت تنتظرني في ذلك اليوم إنْ أنا أردتُ أن أنهيه كما خطّطتُ.

عمل كثيرٌ يتربّص بحُلمك الصّغير: أن تُنهيّ النهارَ وأنت بين أفراد عائلتك هناك، في مدينة أخرى، نزولا في اتّجاه الجنوب. منذ أسبوعين والصّغيران ووالدتهما ينتظرون هذه الإطلالة؛ لا أستطيع حرمانَهم منها ولا حرماني.

التاسعة؛ يوم طويلٌ من العمل يبدأ. علي أن أنهيَه ساعةً على الأقلّ قبل الوقت الطبيعي. في الرّابعة يجب أن أكون قد نفضتُ يدي من كل شيء كي أستطيع اللحاق بقطار الخامسة. وما أدراك ما قطارات الخامسة!..

بعد إقفال عدد السّبت -الأحد المُزدوج من الجريدة، لك أن تبدأ، إن شئتَ، التحضير لعدد الاثنين. حين انتهيتُ، أخيراً، ودّعتُ الزّملاء ونحن نتبادل الضّحكات على مهنة لا ينتهي فيها العمل إلا ليبدأ.

كان علي، في “عطلة” نهاية الأسبوع، اليوم الوحيد الذي لا يشتغل فيه “حُوفارُو” مهنة المتاعب، التّفكير في موضوع لمقالي الأسبوعي. كان يومَ حداد على فنّان مغربي أصيل غادرنا إلى دار البقاء. رحل عبد النّبي الجيراري يوما قبل ذلك. ورغم أنه سبق لي أنْ حرّرتُ مقالاً آخرَ لزاويتي، فقد كان علي تأجيله أو نسيانُه حتى؛ الرّاحل الجيراري ليس أيّاً كان! لن أكتب في زاويتي المقبلة إلا عنه، عن هذا الصّرح الفنّي الكبير حقاً، وليس “فلَتة عصره” و”الهرَم” وهلمّ مرثيات، في زمن ضائع “رحلَ” القطارُ عن أنماط التّباكي فيه باسم مديح الظلّ، العالي منه وحتى الواطئ، يا درويشُ، لو تعلم؛ يكتبون عنهم لكنْ فقط بعد رحيلهم!..

لأول مرة منذ مدة طويلة جدا، يحضر “التّرانْ” في الموعد. كنتُ كلما تأخّرتُ خمسَ دقائقَ وجدتُه قد مرّ؛ وإنْ أنا حضرتُ قبل الوقت، ما إن ألج فضاء المحطة حتى يتعالى الصّوتُ النسوي مُعلناً عن تأخّر “الترانْ” عشرين دقيقة أو ثلاثين! ضدّا فيّ فقط؟ ربّما؛ في الحقيقة، شككتُ كثيراً في ذلك؛ بيد أنّ أمراً واحداً لا يُمكن أن يختلف فيه قطاران في مغرب نُبشَّر فيه بقطارات الـ”تي جي في”: ساعةٌ أو بعضُها كتأخّر أزَليّ؛ كأنّي بذلك التأخّر صار عُرفاً أو تقليدا لا محيد عنه!

ولا يُهدّئ الأعصابَ (ويزيدها دماراً بالنسبة إلى غير المُدخّنين على ظهر الدّابة الغبية) إلا دخّانُ سجائرَ تُنفَث في وجهكِ أيتُها الرّداءة، في وطن كل ما نريد أن نراه جميلاً والأمورَ فيه تسير بكيفية طبيعيّة، فما يقابلُ أمانينا سوى بالجُحود والتخلي والتأخّرات..

وبين التبرّم والشكاوى، تمضي ساعات السّفر المُرهقة والطويلة بفعل تأخّر الوحش الحديديّ الدّائم، لو يدري السّاهرون على الشّؤون، لكنْ لا يدرُون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *