في سوريا، وسط دمار شامل بمدينة القنيطرة، جنوب غرب سوريا، هناك، حيث ترقد جثامين العشرات من الجنود المغاربة في مقبرة الشهداء، لا يمكن للزائر وهو يترجل بين ممرات المقبرة، إلا أن يتوقف أمام صورة غير معتادة من “التعايش” بين “الموتى” الشهداء، اللذين جمعتهم الأرض رغم اختلاف عقيدتهم الدينية.
*عبد المجيد الفرجي
مع نهاية حرب 6 أكتوبر 1973، التي استرجع فيها العرب صحراء سيناء، ومدينة القنيطرة بعد جولات من المواجهة مع إسرائيل، أثارت المشاركة العسكرية المغربية جدلاً كبيراً حينها لدى عدد من المراقبين العسكريين والسياسيين، خصوصا بعد سقوط مجموعة من الجنود المغاربة في ساحة الحرب، التي لازالت تحتضنهم فوق ترابها إلى الآن.
وسط دمار شامل بمدينة القنيطرة، جنوب غرب سوريا، هناك، حيث ترقد جثامين العشرات من الجنود المغاربة في مقبرة الشهداء، لا يمكن للزائر وهو يترجل بين ممرات المقبرة، إلا أن يتوقف أمام صورة غير معتادة من “التعايش” بين “الموتى” الشهداء، اللذين جمعتهم الأرض رغم اختلاف عقيدتهم الدينية.
شواهد القبور المسيحية تجاور نظيراتها الخاصة بالمسلمين من المغاربة.
غير أن صور أخرى كانت مقلقة، الأمر يتعلق بالنبش والتخريب الذي تعرضت له بعض قبور الشهداء المغاربة، بل إن مجموعة منها تعرضت للحرق، في محاولة “ص. ه. ي. Yونية” على حد تعبير مصادر من شبيبة الثورة السورية، (الموالية للأسد) لطمس رموز لازالت شاهدة على المشاركة المغربية في حرب 6 أكتوبر أو ما يصطلح عليها بـ “حرب يوم الغفران”.
ليلة “سقوط” الجنود المغاربة
عشية انطلاق حرب 6 أكتوبر التي دارت بين مصر وسوريا من جانب وإسرائيل من الجانب الآخر، سنة 1973، لاسترداد شبه جزيرة سيناء والجولان، بعد احتلالهما في حرب1967 من طرف الإسرائيليين.
كان الآلاف من الجنود المغاربة يرابطون بهضبة الجولان تحديدا، حيث أخذوا أماكنهم في الخط الدفاعي الثاني، على السفوح الشرقية لمرصد جبل الشيخ، الذي يتواجد على ارتفاع 2114متر من سطح البحر.
هذا التموقع كلف المغاربة خسائر بشرية هامة في حدود 170 شهيداً، ويروي محمد لومة خريج الكلية الحربية السورية، والذي كان يراقب الحرب حينها من لبنان من موقعه كقائد عسكري لقطاع العرقوب التابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. (يروي لومة) أنه تم الإيقاع بالجنود المغاربة في”ثغرة”، كان ورائها اللواء السوري حلاوة ذو الأصل الدرزي، عندما دخل في صفقة مع الإسرائيليين، وفتح بموجبها “ثغرة” بالليل لهجوم صامت من أجل اختراق الصفوف السورية، فكانت الضربة القاضية للمغاربة، الذين فوجؤوا، فسقط منهم عدد من القتلى والجرحى.
وهكذا (يضيف لومة) أصبح الهجوم صاخبا بعدما تم استعمال الدبابات، المدفعية، والرشاشات الثقيلة.
غير أن الجيش السوري استطاع مواجهة الموقف، وأعدم في اليوم الموالي القائد حلاوة، الذي اعتبر خائنا.
وفي هذا الصدد نفى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في برنامج “زيارة خاصة ” على قناة الجزيرة، اتهامات بعض الأوساط للخيانة الدرزية في حرب أكتوبر.
أما في الجبهة المصرية فقد فتح الإسرائيليون بقيادة إرييل شارون “ثغرة الدفرسوار”، غرب قناة السويس، لكن هذه المرة ليس بسبب الخيانة، وإنما لضعف المدرعات المصرية، كما أورد ذلك اللواء سعد الدين الشاذلي في كتابه “مذكرات حرب أكتوبر”. وكان حينها قد حلت تجريدة مغربية (ضمت ستة آلاف جندي) لكنها لم تسجل أي عمل يذكر بسبب وقف إطلاق النار في 24أكتوبر.
لقد سقط العشرات من الجنود المغاربة في ساحة الحرب بجبهة الجولان، وكان ضمن الشهداء العقيد العلام، ولكثرة الضحايا تقرر دفنهم في مدينة القنيطرة إلى جانب زملائهم العرب من مسيحيين ومسلمين. وهو ما تعبر عليه شواهد القبور التي لا زالت ماثلة في مدخل مدينة القنيطرة بمقبرة الشهداء.
“صعوبة التواصل” بين الجنود المغاربة والسوريين
مع انطلاق حرب أكتوبر، لم يكن الجيش المغربي يتوفر سوى على خمسين ألف جندي، يستهلكون أقل من3 في المئة من الدخل الوطني الخام، في مقابل 5,8من الدخل الوطني الخام المستهلك من طرف الجيش السوري، الذي كان يتوفر على قرابة 400ألف جندي عامل بالإضافة إلى الاحتياط.
إلى جانب ذلك كان “هناك فرق شاسع بين المؤسسة العسكرية المغربية ونظيرتها السورية، بحيث أن الأداء العسكري لجيش مغربي ينهج العقيدة الفرنسية، سيكون ضعيفا جدا حينما سيتعامل مع نظير له يعتمد العقيدة السوفياتية كالجيش السوري” بحسب تعبير محمد لومة الخبير بالمدرسة العسكرية السوفياتية.
ويرى لومة، أن إدماج الفوج المغربي في نسيج عسكري من ربع مليون بعقيدة مغايرة، أمر مستحيل، بالرغم من وصول التجريدة المغربية بحوالي ستة أشهر قبل بداية الحرب، “فالموضوع هنا لا يتعلق بإدماج لاعب في فريق لكرة القدم”، يقول لومة. الأخير يرجع سبب البون الشاسع بين المؤسستين العسكريتين، إلى الاختلاف الحاصل بينهما في نظام التراتبية العسكرية، نظام التواصل السلكي واللاسلكي، نوعية التسلح وعياراته وقطع غياره، بالإضافة إلى أنظمة التكتيك العسكري المتبعة في أعمال التطويق والكمين وفتح الثغرات، والتي تحكمها آلية ولغة اتصال عسكرية مغايرة لمدرسة نابوليون بونابارت.
لذلك فإن المساهمة المغربية في حرب أكتوبر كانت رمزية، حسب تعبير لومة. إن لم تكن مضارها من حيث التنسيق كبيرة بالنسبة للقيادة السورية. فالأخيرة لم تجازف بوضع الجنود المغاربة في الخط الأول وذلك لسبب مهم جدا يتمثل في اختلاف لغة العسكر السوري، علاوة على عدم تمكن الجنود المغاربة من اللهجة المحلية لأهالي منطقة هضبة الجولان، يضيف المصدر نفسه.
خلفيات إرسال الملك للجنود
عشية اختطاف المهدي بنبركة في التاسع والعشرين من أكتوبر 1965 قامت القيادة السورية بإقفال السفارة المغربية، وإطلاق إسم المهدي على أحد أكبر الشوارع بالعاصمة دمشق، فكان التنظيم السري للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سوريا، بمثابة السفارة المغرب والمخاطب الرسمي باسمها، فمضت سنوات من القطيعة خلفت في نفس الحسن الثاني مرارة كبيرة.
فجاء الظرف المناسب بالنسبة للملك المغربي عندما حلت حرب أكتوبر ليبعث بـ”تجريدة عسكرية” مغربية على دفعتين الأولى (قرابة 5000 جندي ضمنهم متطوعون)، مع بداية ربيع1973 وهي التي استقرت في جبهة الجولان تحديدا، في حين غاب الجنود المغاربة في الجبهة المصرية ، غير أن الملك الحسن الثاني تدارك الأمر في اللحظات الأخيرة، عندما بعث(6000 جندي ) إبان الحرب.
تزامن قرار الحسن الثاني بإرسال ما يسميه بـ”التجريدة المغربية”، مع ظرف سياسي دقيق وصعب داخل المغرب.
فقد فشل الحوار الذي كان دعا إليه الحسن الثاني الكتلة الوطنية بعد الانقلاب الأول في 10يوليوز بالصخيرات1971، غير أن الانقلابيين سيصعدون في 16 غشت 1972 إلى الأجواء في محاولة لإسقاط طائرة البوينغ التي كانت تقل الملك من فرنسا إلى المغرب.
ثم إن إرسال الجنود المغاربة إلى حرب أكتوبر كان عشية إعدام كافة ضباط وضباط الصف المتورطين في المحاولة الانقلابية الآنفة الذكر.
بعض المراقبين يرون أن الحسن الثاني كان يراهن على الحضور بشكل أو آخر في الحرب العربية ضد إسرائيل، خصوصا مع مشاركة دول عربية عديدة من قبيل الجزائر، وليبيا، السعودية، الكويت، العراق، ودول إسلامية من حجم إيران وباكستان.
الحرب خدعة: القيادة المصرية السورية كانت متوجسة من الحسن والحسين
حينما انطلقت الحرب وسقط الجنود المغاربة إتباعا في موقعة “جبل الشيخ” بالجولان السوري، لم يستسغ الراحل الحسن الثاني عدم علمه، بموعد انطلاق حرب أكتوبر، يقول الضابط المغربي محجوب الطوبجي في كتابه ضباط صاحب الجلالة” إن الحسن الثاني كان غاضبا بشدة على الجنرال عبد السلام الصفريوي الذي ترأس التجريدة المغربية، لعدم إبلاغه بتوقيت بدء الحرب، فبرر الجنرال موقفه بصعوبة التواصل عبر الأجهزة السلكية مخافة اكتشاف العدو للمواقع العسكرية، وإفشال الخطة المصرية السورية المعدة سلفا من طرف القيادة المشتركة.
ويضيف الطوبجي الذي كان مساعدا للمسؤول عن التجريدة المغربية، أن الحسن الثاني قال للصفريوي إنه بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية من المفترض أن يكون على علم بموعد الحرب وأحوال جنوده. “كان من المفترض أن تأخذ طائرة و المجئ لتخبرني”، يقول الحسن الثاني للصفريوي، حسب ما ورد في كتاب الطوبجي.
تقول بعض الأوساط العسكرية المقربة من القيادة العسكرية السورية أيام حرب أكتوبر، إن مصر وسوريا، قبل انطلاق الحرب كانت متوجسة من الملكين المغربي والأردني.
فكانت القيادة المشتركة تحاول منع تسرب المعلومات الرئيسية إلى الملكين، أو العمل على تمويه أحدهما، كما فعلت مع الحسين عندما موهه كل من السادات والأسد في اجتماع 10 شتنبر 1973قبل انطلاق الحرب، بقولهما له إن هناك هجوما وشيكا على سوريا من خلال الأراضي الأردنية.
غير أن الحسين شعر بشئ غير عادي ينجز في الخفاء من ورائه.
وفي 25 شتنبر أي قبل انطلاق الحرب بحوالي أسبوعين، قام الرجل بقيادة طائرته شخصيا ليتوجه إلى إسرائيل للقاء گولدا مايير رئيسة الوزراء، وتحذيرها بهجوم مصر وسوريا على إسرائيل، وهو ما كشفت عنه تسجيلات أذيعت في بعض الفضائيات.
* مقال سبق لي نشره في جريدة أسبوعية “الأيـام”المغربية، بتاريخ 11 أكتوبر 2008.