نظّم فريق بحث “الدراسات السوسيولوجية في التنمية والابتكار الاجتماعي” بشراكة مع شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال، ندوة علمية دولية يومي 28 و29 نونبر 2024، تحت عنوان “التغيرات الأسرية المعاصرة وقضايا النوع الاجتماعي: نحو مقاربة متعددة التخصصات“.
الندوة، التي أُهديت أعمالها لعالمة الاجتماع المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي، شهدت مشاركة نخبة من الباحثين من مختلف التخصصات العلمية (علم الاجتماع، علم النفس، الحضارة، والديمغرافيا، والفكر الإسلامي)، من داخل المغرب وخارجه، حيث أثثت قضايا الأسرة والنوع الاجتماعي فضاء النقاش العلمي على مدار يومين كاملين.
افتُتحت أشغال الندوة بكلمات ترحيبية ألقاها محمد بالأشهب، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السلطان سليمان، مشيدًا براهنيّة موضوع الندوة وأهميته الأكاديمية والاجتماعية. بدوره، نوّه السيد خالد عاتق، مدير فريق البحث، بأهمية تبني مقاربة متعددة التخصصات لفهم التحولات التي تشهدها الأسرة المغربية، مؤكدًا دور المؤسسات الأكاديمية في مواكبة هذه التحولات. من جانبه، تحدث الأستاذ ربيع أوطال رئيس شعبة علم الاجتماع بجامعة السلطان مولاي سليمان عن التحديات التنظيمية، مشيراً إلى دعم رئيس الجامعة وعميد الكلية ونائب العميد في إنجاح الندوة.
كما أعلنت الأستاذة هاجر لمفضلي باسم لجنة التنسيق إهداء أعمال الندوة لعالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي، اعترافًا بإسهاماتها في مجال النوع الاجتماعي. وشهدت الجلسة الافتتاحية تكريم عالم الاجتماع المغربي المختار الهراس، الذي ألقى مداخلة افتتاحية تناول فيها تحولات الأسرة المغربية في ظل تحديات العولمة، وقد أشاد الباحث عبد الهادي الحلحولي أستاذ علم الاجتماع بجامعة السلطان سليمان بالمسار العلمي والأكاديمي للأستاذ المختار الهراس وما قدمه للبحث العلمي لعقود.
توزعت أعمال الندوة على جلسات علمية ثرية تناولت مواضيع متشابكة، مثل تأثير القيم الاجتماعية الحديثة على الأسرة المغربية، ودور الإعلام الرقمي في تشكيل العلاقات العائلية، بالإضافة إلى تحليل الأبعاد الجندرية للعلاقات داخل الأسرة.
في إحدى المداخلات البارزة، تناول الدكتور خالد لحسيكة أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس التحولات العميقة في بنية الأسرة المغربية، مشيرًا إلى أهمية فهم الفردنة وتأثيرها على الهوية الأسرية.
وقد شهدت الندوة مشاركة الباحث في الفكر الإسلامي عبد الوهاب رفيقي عن بعد، والذي تناول في مداخلته الموسومة بـ “قوانين الأسرة بالمغرب ومعركة تأويل النص الديني”، سياق تعديل مدونة الأسرة، من خلال مدارسة الإشكالات المرتبطة بما هو ديني خاصة بما يرتبط بتأويل النص الديني مثبتا الفرق بين القطعية في النصوص من حيث الثبوت والدلالة، داعيا إلى أهمية فتح باب الاجتهاد في كل القضايا. من جهته، طرح الدكتور المصطفى شكدالي تساؤلات حول دور الخوارزميات الرقمية في إعادة تشكيل التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة، محذرًا من تأثيرها على القيم التقليدية.
ركزت العديد من المداخلات على قضايا النوع الاجتماعي، حيث تناولت الأستاذة هاجر لمفضلي تأثير الفضاء السيبراني في تشكيل علاقات جديدة تحمل في طياتها مظاهر جديدة للامساواة الجنسانية. كما سلطت الأستاذة أمينة زوجي الضوء على تمثلات النساء المعنفات حول الاستراتيجيات المؤسساتية لمكافحة العنف، مشيرة إلى وجود فجوة بين التوقعات والواقع. وفي جلسة أخرى، تناول الباحث رشيد الزعفران التضامن الأسري في المجتمع المغربي، مشيرًا إلى الأدوار التقليدية التي ما تزال تلعبها النساء في ظل غياب سياسات حماية فعالة.
تميزت الندوة بمشاركة دولية لباحثين من تونس، ما أضفى بعدًا مغاربيًا للنقاشات حول التحولات الاجتماعية المشتركة، حيث القت الباحثة التونسية نسرين بن بلقاسم، أستاذة الديمغرافيا بالمعهد الوطني للشغل والدراسات الاجتماعية مداخلة باللغة الفرنسية حول “الهجرة غير النظامية في تونس كمشروع عائلي”.
كما تناول الباحث عماد بن صالح أستاذ التراث والتنمية الثقافية بجامعة تونس تحت عنوان ” تمثلات الطفولة والأمومة في الذاكرة الجماعية: من خلال أغاني الهدهدة في جزيرة جربة”.
وقدم الباحث علي الغيلوفي أستاذ اللغة والأدب والحضارة العربية بالمعهد العالي للغات في تونس، محاضرة بعنوان :” الحريم في تفكير فاطمة المرنيسي من خلال نساء على أجنحة الحلم “.
كما ناقش الدكتور محمد الصادق بوعلاقي، أستاذ الحضارة العربية بجامعة قفصة بتونس من خلال مداخلته الموسومة بـ”الأبعاد الأسرية للمقاربة الجندرية في الثقافة العربية الإسلامية” سياقات نشأة المقاربة الجندريّة للأسرة، وعلاقتها بالثقافة العربيّة الإسلاميّة.
شهد اليوم الثاني للندوة استكمال النقاش حول محاور متشابكة تجمع بين الأسرة والنوع الاجتماعي، حيث أُثري النقاش بمداخلات تناولت أبعادًا نفسية واجتماعية وثقافية لهذه القضايا.
في الجلسة العلمية الخامسة التي سيرها الباحث إبراهيم الجهبلي، تم استعراض مواضيع شملت الإرشاد النفسي الأسري، تأثير العالم الرقمي على العلاقات الاجتماعية، ومفهوم المجال الاجتماعي في كتابات فاطمة المرنيسي. وقد أكد المشاركون أهمية تعزيز دور الأسرة كحاضنة أساسية للتنشئة الاجتماعية والصحية، ودعوا إلى مواجهة التحديات الجديدة الناجمة عن التحولات الرقمية والثقافية.
أما الجلسة السادسة، التي سيرها الباحث فريد أبي بكر، فقد ركزت على موضوعات مثل التحولات الأسرية، الحماية الاجتماعية، وتمثلات المرض، إلى جانب أدوار الأسرة في الرعاية وتدبير الفوارق الجندرية. وخلصت المداخلات إلى أن التحولات البنيوية للأسرة المغربية تُحتم إعادة النظر في السياسات الاجتماعية، مع مراعاة السياقات الثقافية والمؤسساتية المتنوعة.
الجلسة السابعة والأخيرة، التي أدارها أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط جمال فزة، ناقشت مواضيع متعلقة بالعولمة الثقافية وتأثيرها على الأسرة المغربية، موقع المرأة في التغيرات الأسرية، والهجرة الدولية للنساء القرويات، بالإضافة إلى قضايا تدبير الموارد الطبيعية من منظور النوع الاجتماعي. هذه المداخلات سلطت الضوء على العلاقة الجدلية بين البنية الأسرية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية في مختلف السياقات المغربية.
في ختام هذه الندوة، تم تجديد التذكير بالإسهامات الرائدة لعالمة الاجتماع الراحلة فاطمة المرنيسي، التي كان فكرها حاضراً بقوة في عدد من المداخلات وكذا الملصقات العلمية التي قام بتحضيرها باحثين وباحثات في سلك الماستر والدكتوراه، واعتُبرت الندوة محطة بارزة لإعادة استحضار قضايا النوع الاجتماعي من منظور نقدي وتحليلي، يواكب التغيرات المحلية والعالمية.
جسدت هذه الندوة العلمية فرصة لإبراز دور الجامعة في قيادة النقاشات الفكرية حول القضايا الاجتماعية الملحة. كما أكدت على أهمية البحث العلمي متعدد التخصصات في فهم الظواهر الاجتماعية وتعزيز التكامل بين النظرية والممارسة، بما يساهم في تحقيق تنمية مجتمعية عادلة ومستدامة.
وتبقى هذه التظاهرة، المهداة إلى روح فاطمة المرنيسي، شاهدًا على استمرارية التفاعل مع إرثها الفكري، وتجديد الالتزام برصد قضايا النوع الاجتماعي وتحليلها من منظور علمي دقيق.