على مدى عقود، ظلت العلاقات المغربية-الجزائرية متوترة، لكن منذ وصول “تبون” إلى قصر المرادية في 13 دجنبر 2019، تحول هذا التوتر إلى عداء معلن.
محمد كريم بوخصاص
لا يمكن تفسير التصعيد الجزائري المستمر ضد المغرب إلا بأمرين:
الأول، أن التحولات الحاسمة في ملف الصحراء المغربية كانت بمثابة ضربة موجعة لنظام “تبون“.
والثاني، أن قضية الصحراء باتت محسومة دوليا، مما يدفع النظام الجزائري للبحث عن ذريعة جديدة لإلهاء شعبه عن أزماته الداخلية.
يمكن لدولة ذات سيادة أن تكون خصما لدولة أخرى، لكن الأسوأ هو أن يكون هذا الخصم بلا رؤية أو بوصلة، فينسف بنفسه السردية التي يدّعي الارتكاز عليها. فالنظام الجزائري، الذي ظل يتشدق بأنه يدعم انفصال الصحراء “لأنها بيد الأمم المتحدة”، يُظهر الآن تناقضه للعالم من خلال افتعال أزمات تفتقر إلى أي منطق أو هدف سوى استفزاز المغرب.
ومن المفارقات المضحكة أن وسائل الإعلام الجزائرية، مثل صحيفة “الخبر”، يمكنها نشر أخبار عن “ميلاد جمهورية الريف!” لتقسيم المغرب، بينما تُصرّح في نفس الوقت، وفي نفس الصفحة أن “الوحدة الترابية للجزائر خط أحمر”. كأن خط الوحدة الترابية للمغرب له ألوان أخرى!
لفهم الاستعراض العبثي الذي حصل أمس بالجزائر حول ما سمي “يوم الريف”، يجب العودة إلى تطورات الأعوام الأخيرة.
على مدى عقود، ظلت العلاقات المغربية-الجزائرية متوترة، لكن منذ وصول “تبون” إلى قصر المرادية في 13 دجنبر 2019، تحول هذا التوتر إلى عداء معلن.
ورغم ذلك فإن هذه المرحلة شكلت فرصة للمغرب لتعزيز مكانته الدبلوماسية وتحقيق إنجازات نوعية:
نجح المغرب في فتح قنصليات في صحرائه.
سحبت دول عديدة دعمها لجبهة “البوليساريو“.
عاد المغرب بقوة إلى الاتحاد الإفريقي.
اعترفت أمريكا بمغربية الصحراء، وتبعتها إسبانيا وفرنسا، مع توقعات بتحولات وشيكة في مواقف باقي الدول الكبرى كالمملكة المتحدة والصين وحتى روسيا.
أمام هذا العداء الذي يمكن أن يتطور إلى ما لا يحمد عقباه، أظهر المغرب أنه يفكر بعقلية استراتيجية
فبينما تنفق الجزائر مليارات الدولارات بشكل جنوني على التسلح، يركز المغرب على تطوير “صناعة حربية” محلية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ويمكن العودة إلى مشروع مالية 2025 وقبله 2024 لاكتشاف كيف يعمل المغرب على توطين الصناعة الحربية لتعزيز قدراته الدفاعية وضمان استدامة إنفاقه العسكري.
كما يكفي التأمل في عدد الشركات العالمية التي أعلنت استثمارها في مناطق صناعة متخصصة عبر تراب المملكة لمعرفة هذا المنعطف الاستراتيجي.
العقلية الاستراتيجية للمملكة الشريفة في مواجهة التصعيد الجزائري يظهر ايضا بالحرص على بقائها وفية لسياسة اليد الممدودة، في تعبير واضح عن التمييز بين نظام طارئ وشعب جزائري شقيق. أما بالنسبة للنظام الجزائري فإن هذه السياسة مؤلمة له، فهو يريد مجاراته في حمقه، لا أن تنظر إليه من فوق وتخاطبه برشد، كأنك تقول له: “مت بالسم“.
يمكن إحصاء ست مرات مدت فيها اليد المغربية:
اولا: التهنئة الملكية لتبون في 15 دجنبر 2019 والتي دعا فيها الملك “لفتح صفحة جديدة“
ثانيا: الدعوة الملكية في 31 يوليوز 2021 لطي الخلافات وفتح صفحة جديدة
ثالثا: عرض المساعدة المغربية لإطفاء الحرائق في 11 غشت 2021.
رابعا: خطاب عيد العرش في 31 يوليوز 2022، حيث أعرب الملك عن رغبته في إقامة “علاقات طبيعية” مع الجزائر.
خامسا: الدعوة الملكية في 2 نونبر 2022 التي وجهت لتبون لزيارة الرباط من أجل الحوار رغم تعطيل الجزائر زيارة الملك لحضور القمة العربية بالجزائر.
سادسا: الطمأنة الملكية للجزائر في 29 يوليوز 2023 بعدم الإساءة والتشديد على أهمية علاقات الجوار مع الدول الشقيقة.
لكن اليد الممدودة لم تمنع المغرب من اتخاذ مواقف واضحة تجاه نظام الجزائر. ففي خطاب 6 نونبر 2021، بعد شهرين فقط من قطع العلاقات، أكد الملك أن “المغرب لا يتفاوض على صحرائه”.
وفي خطاب 6 نوفمبر 2024 بمناسبة الذكرى الـ49 للمسيرة الخضراء، وجه الملك رسائل واضحة إلى العالم الآخر/النظام الجزائري: البحث عن منفذ أطلسي لن يكون إلا عن طريق المغرب.
الخلاصة: العداء الجزائري يدفع المغرب إلى التحرك بعقلانية وهدوء، مع التركيز على تعزيز مكانته الاستراتيجية وتطوير قدراته الوطنية وتحقيق مكاسب حاسمة في قضية وحدته الترابية.
وفي الوقت ذاته، يتعامل المغرب مع هذا النظام باعتباره خارج السياق التاريخي، متجنبا الاستفزازات الإعلامية، ومتمسكا بسياسة اليد الممدودة، لكن دون أن يتردد في إظهار “العين الحمراء” عند الضرورة، مع الاستعداد الدائم لأسوأ الاحتمالات، دون بهرجة.
*محمد كريم بوخصاص-كاتب صحفي