حلت يومه السبت خامس أكتوبر 2024 ذكرى الاحتفاء الدولي بالمدرس وسط أجواء مغربية مشحونة بالإضرابات والاحتقانات بسب ضبابية المسارات التعليمية والصراعات الخفية والمعلنة، إن على مستوى المطالب المالية والمعنوية، أو على مستوى الاحترام الواجب واللازم للمعلم الذي كاد في زمن النهضة العربية والإسلامية أن يكون رسولا.
ذكرى لا يختزن لها المدرسين أية بصمة إيجابية من لدن المسؤولين على قطاع التربية والتعليم. ولا من طرف الأسر والمحيط المدرسي بكل مكوناته. تمر مرور الكرام بدون أدنى اهتمام ولا التفاتات إيجابية تحفز الأطر التربوية على العطاء والإبداع.
لتبقى لديهم ذكرى بدون ذاكرة وعيد مع وقف التنفيذ.
مع الأسف ورغم كل ما يسوق له من مبادرات ومكاسب مفترضة للمدرس. فإنها مبادرات ومكاسب مضللة. تزيد من إحباط أطر التعليم. وتؤكد لهم أن القيمين على هذا القطاع الحيوي. لهم أهداف دوافع أخرى بعيدا عن التربية والتعليم. وأنهم لا يهتمون بتكوين أجيال مبدعة.
بقدر اهتمامهم بتكوين كائنات بشرية مدمنة على الاستهلاك المفرط للتفاهة والميوعة، وتبذير ما وفرته أسرهم من أموال وثوابت.
ولعل التسويق الإعلامي المبالغ فيه في الحديث عن الزيادات الأخيرة في أجور أطر التربية الوطنية. والتهليل الفاضح للمسؤولين عن تلك الزيادات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. يؤكد أن الوزارة الوصية لا تقيم وزنا لقيمة الأستاذ ومركزه الاجتماعي الذي لا يضاهى بالمال.
وأن ما يتلقاه شهريا من فتات المال لا يمكن الحديث عنه كراتب شهري منصف حتى وتمت مضاعفته. وعلى الوزارة الوصية والحكومة والمجلس الأعلى للتعليم وكل المعنيين والمتمين بقطاع التعليم، أن يدركوا أن الأستاذ في حاجة إلى إعادته إلى مكانته النبيلة الصحيحة.
حتى يؤدي دوره كمحور للتربية والتعليم. في حاجة إلى مشاورته في كل صغيرة وكبيرة تخص التلاميذ و طرق التدريس ومناهج وبرامج التدريس.
كما هو في حاجة الوقاية قبل الحماية من العنف اللفظي والجسدي. ومنع التدخل مهامه داخل فصول الدراسة. والعمل معا على إعادة الثقة بين الثلاثي (الأستاذ، التلميذ، ولي الأمر). لأن ما نلمسه الآن. أن المدرسة أصبحت غارقة في وحل هذا المثلث (بيرمودا). وأن اختفاء التلاميذ من المدرسة يعود بالأساس إلى ما وصلت إليه العلاقة الثلاثية من انهيار وخراب.
يستمر اعتبار الأستاذ (ة) الشماعة التي يعلق عليها المسؤولون فشل برامجهم ومخططاتهم ورؤاهم. تواطؤ الكل من أجل النيل من سمعته وشرفه، وقتل روح التربية والتعليم في داخله. فقد المعلم هيبته، لا قيام ولا تبجيل ولا تقدير، ولا حتى وقار، المفروض أنه الأستاذ والأب والمربي.
حيث بات يتلقى المهانة والسخرية والتهم الملفقة من التلامذة والآباء والوزارة الوصية. لم تعد تحق عليه الأبيات الشعرية التي تغنى بها في حقه، أمير الشعراء الراحل أحمد شوقي (قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا … كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا ..
بعد أن نسجت الحكومة بديلا لها في صيغة جديدة مطلعها (قم للمعلم وفِّه “التبهديلا” كاد المعلم أن يكون مغبونا).
لابد إذن على وزارة (بنموسى) وحكومة (الأخ نوش) أن تضعا برنامجا تنمويا تعليميا جديدا، بالاعتماد على المدرس، من أجل تشخيص وتشريح واقع التعليم، واقتراح الآليات والسبل الكفيلة بنهضته.
وهذا لن يتم بتنظيم ملتقيات للتسويق الإعلامي، مثل المنتدى (المهرجان) الوطني للمدرس. حيث مت اختيار المشاركين بطرق مشبوهة تم طبخها سريعا(كوكوت مينوت)، دون علم لكافة المدرسين.وجعل الأساتذة ينصتون إلى أشخاص لا علاقة لهم بقطاع التربية والتكوين، أو ينصتون لحكاوي زمان، عن سيرة ذاتية غير موثقة، منسوجة من الخيال. بل بتنظيم منتديات محلية وإقليمية وجهوية لرواد القطاع. حتى يأتي الإصلاح من الأسفل والأساس.
وممن يعملون في الميدان، ويسجلون يوميا الصعوبات والمشاكل والعراقيل التي تحول دون الحصول على تربية حسنة وتعليم جيد.
ولابد من تغيير حتى اسم الوزارة الوصية التي لا تتضمن كلمة (التعليم المدرسي)، وتكتفي بكلمتي (التربية الوطنية) لأن هذه التربية الأخيرة هي واجبة على كل المغاربة داخل وخارج فصول الدراسة وبغض النظر عن أعمارهم، ويمكن أن تلقن دروسها داخل كل المرافق والقطاعات العمومية والخاصة، ونحن في حاجة إلى التعليم الذي افتقدناه وسط زحمة الكتب والبرامج ورؤى المنظرين القصيرة.
وضبابية المستقبل لدى التلاميذ والأسر. نحن في حاجة على ترسيخ ثقافة التعليم اللازم لشخصية الطفل واليافع والشاب. ليس من أجل الوظيفة وتخفيف الحمل على الأسر التي كافحت من تعليم أطفالها. ولكن من أجل أن يكون للشاب شخصية تجمع بين السلوك الحسن والعلم والإبداع.
نحن لسنا في حاجة إلى شاب من أجل شغل وظيفة أو مهنة يداوم عليها بشكل روتيني وكأنه آلة. بل نحن في حاجة إلى شاب يصنع المهن والوظائف ويحمل هم (الوطن كاملا)، وليس هم أسرته الصغيرة فقط.
تم إقرار اليوم العالمي للمدرس من طرف الأمم المتحدة يوم الخامس من شهر أكتوبر 1994، إحياء لذكرى توقيع توصية اليونسكو ومنظمة العمل الدولية لعام 1966، والتي تعنى بأوضاع المدرسين. وتضع هذه التوصية مؤشرات مرجعية تتعلق بحقوق ومسؤوليات المدرسين، كما جاءت بعدها توصية اليونسكو بخصوص أوضاع أساتذة التعليم العالي، والتي اعتمدت بدورها سنة 1997. اختارت له المنظمة كشعار لسنة 2021 (المدرسون في قلب إنعاش التعليم)
وككل سنة ينتظر المحتفى بهم مبادرات الإنصاف والتقدير من طرف الحكومة والمجتمع. كما ينتظرون بدون جدوى تجاوب وتفاعل إيجابي محفز. الكل يتساءل سنويا بماذا ستهاديهم الحكومة؟، وما طبيعة المكافئات التي ستخصص لهذه الفئة التي كادت أن تبلغ مقام الرسل والأنبياء؟ ولماذا تكتفي الوزارة الوصية بإصدار مذكرة وزارية سنوية روتينية، ورسائل تهنئة منسوخة وممسوخة. تداري بها عما ترتكبه من حماقات وتجاوزات في حقهم طيلة السنة الدراسية؟. أسئلة كثيرة ومتنوعة يطرحها رواد قطاع التربية والتعليم لكنها تبقى عالقة بدون رد.
تحل الذكرى، وآثار الجراح العميقة، لازالت لم تندمل. جراح الآلاف من المدرسين الذين أرغموا على الشغل بالتعاقد بعيدا عن الوظيفة العمومية. وجراح مجموعة من الفئات المقصية من الإدماج والترقي و.. جراح العبث والاستخفاف التي يتجرعها مجموعة من الأطر التربوية بسبب قرارات الوزارة الوصية أو أكاديميات التربية والتكوين أو المديرية الإقليمية أو حتى رؤساء ومديري المؤسسات التعليمية. أو بسبب بنيات المؤسسات وضعف أو غياب التجهيزات. بل هناك من الأساتذة الابتدائي من يرغم على تدريس عدة مستويات داخل فصل واحد، وهناك من يرغم على تدريس مادة لا تدخل في تخصصه و.. زد عليها ما يمارس على المضربين والمحتجين المطالبين بإنصافهم، حيث يتعرضون للتوبيخ وتتعرض رواتبهم الشهرية للاقتطاعات.
بالمغرب.. لا أحد من أعضاء الحكومات التي تعاقبت على تدبير شؤون البلاد، فكر في إنصاف التلميذ والمدرس والأطر التربوية. بل إنهم أتوا على الضوء الخافت وبصيص الأمل الذي كانت تتشبث به الأسر المغربية، طمعا في مستقبل راق لأطفالها .
تستمر أساليب استهداف الأستاذ والتقليل والتنقيص من شخصيته وقيمة مهنته النبيلة. بل بلغت حد ضربه في شرفه وجيبه وتقاعده. فرغم أن صندوق المقاصة ضل يقتطع من أجور المدرسين وكافة الموظفين بانتظام، ورغم أن لصوص الصندوق الذي أفرغوه وتسببوا في الأزمة المالية هم من داخل الحكومة.
إلا أن هذه الفئة ومعها باقي الموظفين البسطاء كتب عليهم تحمل فراغ الصندوق كما يستمر مسلسل استهداف الأسر بتشتيت تفكيرهم وجعلهم ينشغلون عن أطفالهم، وزرع التفرقة بين الآباء والمدرسين والأطر الإدارية والتربوية.
وترسيخ عدم الثقة بين الثلاثي (الأسرة، المدرس، الإدارة) المفروض أنه الضامن لصحة وسلامة العملية التعليمية.
ليتسبب ذلك في إحباط التلاميذ وسخط بعض المدرسيين. محاولات ضرب قطاع التربية. باعتماد اعتماد إعداد أطر الأكاديميات والتخلي عن مراكز التكوين المقننة (مدارس المعلمين والمراكز التربية الجهوية والمدارس العليا للأساتذة). والخاضعة لبرامج ومناهج دقيقة. وإخضاع الأساتذة الجدد لتكوينات قصيرة و عشوائية (7 أو 8 أشهر).
والنموذج الحالي الهادف إلى (فرنسة) المواد العلمية، وفرض التدريس باعتماد أطر معربة. حيث تفتقت عبقرية مسؤولي الوزارة وربان زورقها المطاطي إلى فرض اختبار هؤلاء من أجل لغة (أكل عليها الدهر وشرب)، ولم تعد صالحة حتى للحكي والغزل.. أو مبادرة تدريس اللغة الانجليزية بالتعليمين الابتدائي والإعدادي، التي لم توفر لها الوزارة مدرسين متخصصين. وهي أمور تؤكد أننا ماضون في إغراق القطاع ورواده.
ذكرى أو عيد المدرس الذي تبنته الوزارة احتراما للالتزامات الدولية، أقرته إلى جانب باقي الأعياد والأيام الوطنية والعالمية (عيد المدرسة، اليوم الوطني للآباء وأولياء أمور التلاميذ…).
ولا توفر الإمكانيات المادية واللوجيستيكية اللازمة لها. وتكتفي بالتنصيص على الاحتفاء بها وفق برامج وأنشطة يصعب تطبيقها، بسبب الاكتظاظ وكثرة ساعات العمل وانعدام قاعات للأنشطة، بل حتى للدعم المدرسي.
فهل يدرك هؤلاء .. قادة التربية والتعليم أنهم رسبوا في القيادة، وعليهم التنحي والاعتذار.. وأن قطاع التربية والتكوين الذي سطره ملك البلاد في مرتبة الوصيف، بعد الوحدة الترابية. لم يحظى بقادة في مستوى الريادة ؟.
وهل يعلمون أنهم وضعوا التعليم بالمغرب في متاهة التسيير والتدبير.. وأفقدوا الأساتذة بوصلة التدريس والتكوين ؟. كما أفقدوا التلاميذ شهية التربية والتعليم. فكم بلد كد واجتهد ونال تعليما وفق ما اشتهاه، وكم بلد لازال يبحث عن مسار صحيح يمكنه من مبتغاه. وكل عام وعيد أساتذتنا سعيد بلا سعد.
بقلم : بوشعيب حمراوي