عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 89

حين تَحولَ جْحا إلى.. دْراكُولا!

 

يتعثر كاتبُنا (الأديب أو الشّاعرُ أو الفيلسوفُ أو الناقد أو عالِم الاجتماع) في خجله من نظرات المُحيطين به من الشّاهدين المُتواطئين بصمت، على البوار المُفترَض لمُنتَجه الفكريّ؛ يدلف خلف جحا إلى مكتبه وقد عايَنا رُكامَ المرجوعات في غرفة جانبية ضيّقة. وهناك، خلف باب مكتبه، “يسلخ” جْحا الأديب (أو الشّاعر أو الفيلسوفَ أو الناقد أو عالِمَ الاجتماع).. يُغادرون مكتبه بنُسَخ “يغدقها” عليهم جْحا -المدير، كما لو ليقول لهم، مُخادعاً لكنْ لا يدرُون: خذوا ما شئتم من نُسَخ كتابكم؛ بقدْر ما أخذتم تُخفّفون عني تبعات خسارتي في مطبوعكم وتُفرغون مساحة في غرفة المرجوعات.. ولا يأخذون، في الأقصى، أكثرَ من عشرِ نُسَخ أو أقلّ. ينزلون الأدراجَ، يسبقهم اقتناعهم بلا جدوى العودة إلى صناعة الثقافة في دار يتجشّم فيها الناشرُ “كلّ هذه الخسائر”!..

لكنْ، ما إن يبتعد الأديب (أو الشّاعرُ أو الفيلسوفُ أو الناقد أو عالِمُ الاجتماع) عن محيط الدّار حتى تكون “هوندا” قد توقفتْ أمام باب العمارة، حيث الدّار.. ستغادر تلك المرجوعات مكانها في الغرفة الرّطبة الكئيبة كي تأخذ مكانها، من جديد، في أكشاك الرّباط ومكتباتها.

بتلك الخطة الجهنّمية كان جْحا “ينجح” (فاشلٌ هو، في الحقيقة، لكنه لا يدري) في الإيقاع بصاحب الكتاب المنشور. يغادر الكاتب مُقتنعاً بأنه فاشلٌ، لأنّ مرجوعاتِ مُؤلَّفه كانت بتلك الكثرة التي رأى بأمّ عينيه قبل لحظات؛ لكنْ بعد ذلك يُخرج “ناشرُ الثقافة” المطبوع من مخبئه المُؤقت ليُزيّن به، مُجدَّداً، واجهات محلات بيع الثقافة ويتربّص، لوحده، بأيِّ ربحٍ مُحتمَل.

قد رحل الأديب (أو الشّاعرُ أو الفيلسوفُ أو الناقد أو عالِمُ الاجتماع) عن الدّار، يُسائلون أنفسَهم هل هُم فاشلون إلى ذلك الحدّ! فيما يستولي “الناجحُ” الوحيد في المَشهد كله على الإصدار، يُدخِل عائداته إلى جيبه، الذي لم يكن يشبع أبداً، جيبِ جْحا -المدير، جيب المُدير -جْحا.

بعضُ أولئك المثقفين والكُتاب كانوا يعرفون جْحا جيداً ويفهمون جميع مَقالبه وحِيَله الشيطانية؛ وكان أحمد الطريقي أحدَهم. لا شكّ في أنه تعامَل معه منذ مدة طويلة؛ ومن ثَمَّ، حفظ جميع مراوغاته ومُناوَراته وخبِر ألاعيبَه وخُدَعه. صار الدكتور الطريقي لا يتوانى في فضحه، أمام الملأ أحياناً كثيرة. وحين يفعل ذلك بمُديرنا المُهرّج، يُسرع الأخيرُ إلى وضع تلك الابتسامة البلهاء على قناع وجهه ويقوده نحو مكتبه، تسبقه ضحكاته الصّفرراء وكلماته المُخاتِلة.

وجد أحمد الطريقي وصفاً خاصّاً ينعتُ به مُدير الدّار الجشع. كان يُسرّ إلى بعضنا بأنّ مُديرنا ليس فقط جْحا زمانِه، بل أيضاً، “دْراكولا، يعيش على امتصاص دماء الآخرين!”.. كان جْحا الدّار يستطيع تَقمّص جميع الأدوار؛ يكفيه أنه سيربح في الأخير. عدا الرّبح، تبقى جميع الأمور، في عُرفه البئيس، مُجرَّد تفاصيلَ صغيرةٍ لا تستحقّ الاهتمام. قد يرتجل ما ليس في حسبان، من مَواقفَ وسيناريوهات؛ لكلِّ ضحية خطة مُحدَّدة وأقنعة توضَع على الوجه، حسب المُتعيَن.

كان بعضُ زبائن الدّار يأتون في غير أوقات وُجود سيادة المدير -جحا في المكتب. وأحياناً، قد يأتي أحدهُم في غياب الشّريفْ أيضاً؛ حينذاك، أكون الوحيدَ المُؤهَّل لمجالسته ومُحادَثته، ريثما يظهر أحدهما، جحا -المدير أو ساعده. كان معظمهم يحاولون استمالتي نحو الحديث عن موضوع مطبوعاتهم وحقيقة صداها في سوق القراءة. يسألون هل يمكنهم أن يتوقعوا تحقيقَ مبيعات وبالتالي جنيَ أرباح من وراء كِتابهم الذي ينوون نشرَه باسم الدّار أو هُم بصدد ذلك. كنتُ أشرح لكلّ مَن يطرقون معي الموضوع أنّني لا أفقه في الأمور الإدارية للدّار والمالية شيئا؛ فعملي ينحصر في مُراجَعة المطبوع وإعداده للنشر؛ ما عدا تلك المهمّة لم أكنْ، في الحقيقة، أفقه الكثير

وإذا كان بعضهم يتفهّمون ويُغيّرون الموضوع، فقد كان آخرون أكثرَ إصرارا على إثارة الجوانب المالية معي، مُستغلين تحديداً غياب المدير ومُساعِده كي يحاولوا أن يفهموا كيف أنهم لا يحققون، أبداً، أيَّ أرباح من إصداراتهم في الدّار، رغم أنّ أعمالهم في دُورِ نشرٍ أخرى قد لا تلقى كلَّ ذلك “الفشل الذريع” الذي يتحدّث عنه جْحا!..

هل أقول لكَِ إنّ جحا يخدعكَِ ويمتصّ لحظات سهركَِ على تدبيج بنات أفكاركَِ واعتصار ذهنك وتعذيب الجسد من أجل “وضعها”؟.. هل أقول لكَِ إنّ جحا يستغفلكَِ ويضحك على ذقنكَِ، كما يضحك على ذقوننا تماماً بأجور لا تتعدّى سقف ألفَي درهم في أحسن الأحوال؟.. هل أقول لكَِ إنّ “الناشر” الذي قصدتَِ ما هو إلا مُهرّجٌ لا يضحك، في نهاية المطاف، أحدٌ غيرُه في المشهد السّخيف، مشهدِ ثقافة بائسة تسمح بأن يشترك في صناعتها أشخاص أو شخصيات من طينة جْحا!؟ لا.. أُفضّل أن أعُدّ نفسي لا أفقه في المسائل الحسابية؛ سيكون ذلك أرحمَ لي ولكَِ، لو تعلمـ(ين)..

كانت الأيام تمرّ علي ثقيلة مُدمرّة لعينَي، لدماغي ولكافة الحواسّ وأطرافِ الجسد. فوق ذلك، لا شيءَ يُفرح في المُحيط ولا في الأفق.. رغم كل شيء، قلتُ لنفسي وأعدْتُ: لا عليك، تحمّلْ وتَعلّمْ! لكنْ ماذا سأتعلّم هنا؟! كيف يَمْكُر المُشغِّل بالمُشتغِل ويغطس كرامةَ حقوقه في أوحال قانون الغاب كلّ يوم؟!

لا، تعلّمْ فقط ما قد ينفعك ذاتَ يوم؛ ما جئتَ إلى هنا من أجل تَعلّمِه!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *