نحن في القرن الواحد والعشرين في عصر الهاتف وعصر الانترنت وعصر الذكاء الاصطناعي و السفاهة والانحطاط.
وسط هذا الغمر الهائل من الوسائل العلمية والتحديات التي تبهر العقل، نرى شيخ الجامع يخاطب الناس من على منبر القرون الخوالي وكل ذخيرته فى الدعوة إلى الإسلام هي تهديد المؤمنين البسطاء الذين سعوا إليه بأن مصيرهم الحرق في جهنم، وبأن من يلبس من زوجاتهم نصف كم سوف تشوى أذرعهن في النار،
ومن يتأخر في صلاته ليؤديها قضاء سوف يلقى به في برميل من الزفت المغلى، ومن يدخر نقوده في بنك سوف يرشق بالأسياخ المحمية..
أما الذي ينظر إلى محرم فنصيبه أن تقلع عيناه وتوضع مكانهما جمرتان لا تنطفئان..
ثم يؤيد كلامه بأحاديث نبوية مرعبة بإسناد طويل عن ابن عنبسة عن الهيثم بن عدى عن ابن أيوب الموصلى عن الكلبي عن التغلبي عن ابن إدريس عن ابن الحضرمي..
وكل هؤلاء نعلم عنهم الآن أنهم كانوا وضاعين للحديث كذابين وأن أكوام الكتب الصفراء التي تركوها كانت زيفا وتشويها، وأن نبينا، وهو نبي الرحمة والشفاعة والمغفرة، لم يقل شيئا من تلك البشاعات.
وتضيع عظمة الدين في طوفان هذه النظرة الضيقة المتعصبة بل قد يطلع علينا شيخ يشتم العلم، ويشتم كل من يفسر القرآن بالعلم، وينادى بالفصل بين الدين والعلم..
ويقول بأن القرآن كتاب عقيدة وتشريعات أزلية ووصايا خلقية، ولا يصح ولا يجوز الربط بينه وبين معارف علمية زائلة فانية.
بل قد نسمع من الشيوخ من يأمرنا بالتسليم الإيماني في قضايا الدين، وينهانا عن الخوض بالجدل العقلي.
وينسى هؤلاء أن جوهر ديننا هو العلم والعقل، وأن الله قال لنبيه وجادلهم بالتي هي أحسن.
وأن خواتيم أكثر الآيات… لعلهم يعقلون.. لعلهم يفقهون.. لعلهم يتدبرون..
بل ونرى القرآن يهتف في صراحة: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. (۱۱۱) – البقرة)، مؤكدا بذلك دور العقل وشرف الحجة والبرهان. وضرورة المنطق.
وقد أشاد القرآن بأولى العلم وأولى الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض.
وأمرنا الله :قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق.
(۲۰ – العنكبوت)
وهو أمر صريح بالسير والنظر وجمع الشواهد والبينات بحثا عن بداية الخلق وأصله، مع أن القرآن يقول بأن أصل الخلق من طين..
وكان يمكن الاكتفاء بهذا دون بحث إذا كان مراد الله منا هو التسليم الإيماني الأعمى.
ولكن الإسلام في جوهره أبعد ما يكون عن التسليم الأعمى..
وهو أكثر الأديان حضا على العلم والتفكر .. وأول كلمة فيه.. اقرأ..
اقرأ باسم ربك الذي خلق، هي أمر صريح بالقراءة والتعلم، جاء هذا الأمر قبل الأمر بالصلاة والصوم والزكاة..
المصدر -كتاب القران كائن حي لمؤلفه الدكتور الموسوعي الراحل مصطفى محمود