عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 86

قصّة من أزمنة الاستعباد!

 

كانتْ ليلةَ سبت؛ خطـّطتُ فيها لقضاء ليلة خاصّة في دار جحا. اعتاد الأخير ألا يحضر إلى ضيعته يوم السّبت أبداً، بالنهار كما بالليل. كان حْمّادي يُردّد، مُتيقناً من كلامه؛ لكنْ ما إن طرحتُ عليه بعضَ الأسئلة وعرفتُ أين يوجد جحا في تلك اللحظة حتى قلتُ لحمّادي، جازماً:

-سيحضر الليلة؛ استثناءً سيحضر!

بعد أخذ وردّ، نزل حْميدة أدراج البناية ليبحث عن خُضر ولحم لإعداد عشاء مُميَّز بتلك المُناسَبة، التي كلما استرجعتُ تفاصيلها افترّت شفتايَ عن ابتسامة شامتة من جحا ومِن الملقب الذي أذقته تلك الليلة دون أن يعلم بما جرى في داره.. جعلتُ منه “شاهدْ ما شافشِ حاجة”، في مشهَد ظللنا نتندّر به، حْمّادي وأنا، لمدّة طويلة. لكنّ حادثاً مأساوياً قلب السّيرَ العادي لتلك الليلة الاستثنائية في سيرة مُجاز ليستْ مثلَ سِير كلّ المُعطـَّلين.

كنتُ مُحقاً في ما ذهبتُ إليه؛ حضر المُدير، على غير عادته.. بعد أن سألني عن حْمّادي وأخبرتُه بأنه سيعود بعد حين، دخل إلى مكتبه وشرع في إجراء اتصالاته، التي لا تنتهي، حتى بِليل أحياناً.

لحظات بعد ذلك، أدار حْمّادي المفتاح ودخل لاهثاً وقد بهتَ لونه، بعد أن عايَن سيارة جحا مركونة أسفل العمارة. بإشارات وكلمات خافتة، أفهمتُه أن يتصرّف بكيفية طبيعية وألا يُظهِر وهو يتحدّث إلى جْحا ما يشي بأنّ شخصا رابعا غيرَنا نحن الثلاثة يوجد في تلك اللحظة بالذات في دار جْحا، الذي جعلتُ منه ليلتها مُغفـَّلاً حقيقياً بسبب كلمات كان قد اقترفَها في حقّي.

نادى عليه وطلب منه تسخينَ الماء. ظننتُ أنّ حْمّادي سيُعدّ له شاياً أو قهوة؛ لكنّ تخميني خاب حين رأيتُه، دقائقَ بعد ذلك، يصبّ الماء المغلى في سطل كبير ويمزجه بماء بارد وهو يقيس حرارة الماء بيده، قبل أن يتناول السّطل ويضع فوطة كبيرة على كتفه ويدخل باب المكتب.. غاب هناك لحظات، مرّتْ عليّ كأنها ساعات، قبل أن يظهر، أخيراً، وفي يده سطلُ الماء وقد تغيّرَ لونه وصارت الفوطة على كتفه أثقلَ بفعل كمية المياه التي تشرّبتها. حاول أن يراوغ نظراتي المُستغربة، لكنّي طوّقته حيثما تحرّكَ، إلى أن أشار عليّ بأن أُمهله إلى أن يغادر جْحا.

-قل لي، الآن، ماذا كنتَ تَفعلُ بسطل الماء الدّافئ في مكتب جْحا؟
سألتُه وأنا أتمنّى ألا يُجيبَني بما فكرتُ فيه؛ لكنّ تخميني كان في محله، مع الأسف.
-اسمعْ، صديقي، أنتَ تعرف أنه ليستْ أمامي فُرَص كثيرة لتدبّر عملٍ آخر وإلا ما كنتُ رضيتُ لنفسي هذا الوضع؛ لكنْ الغالبْ اللهْ.. من حين إلى آخَـر يطلب منّي أن أغسل رجليه بالماء السّاخن. أنا آسف؛ لم أكنْ أريدك أن تعرفَ. أفعل هذا مُضطرّاً، فوالدتي مريضة وَلا مُعيلَ لها ولا أريد أن أتخلى عنها بعد وفاة والدي وأنا بعدُ صغير، لتجد نفسها تواجه مصيرَها لوحدها.. مع الأسف، ليس لديّ خيار آخَر، فأنا…
-لا يا صديقي، بل لديك خياراتٌ، وخياراتٌ كثيرة!..
قلتُ، مقاطعاً إياه بحنق وقد بدأت أوصالي ترتعد:
-لديك خياراتٌ عديدة، صدّقني، وأولها أن تترُك الماء المغلى في السّطل ولا تمزجَه بقطرة واحدة من ماء بارد؛ وحين يمُدّ أمامَك حافرَيْه المُتّسخَيْن اسلقهُما ببساطة، بدل أن تغسلهُما! هذا ما كنتُ لأفعَل شخصياً لو كنتُ مكانَك.. يجب أن تكون لنا الجرأة، أحياناً، على الذهاب بالوضع السّيئ إلى نهايته؛ مَن يدري قد يقوم على أنقاضه وضعٌ بديل، جميل وواعد.. يا إلهي! كيف تُنفّذ له طلباً أو أمراً مثل هذا!؟
-اسمعْني، أرجوك، هل تظنّ أنّني لم أفكـّر في ذلك؟ لكنك تعرف ظروفي التي…
-لا، يا حْمّادي، لا!
قاطعتُه للمرّة الثانية وقد بدأ صراخُنا يحتدّ ونسينا أمرَ ضيفتنا، التي كانتْ قد حشرت جسدها، الضّئيل لحسن الحظ، في دولابٍ ضيّق في غرفة مجاورة..
-إلا هذا؛ لا أقبَله لك صديقي، أبداً. إنّ مثلَ هذه المُمارَسات قد انقرضتْ منذ عقود في جميع بقاع العالم. اعذرْني على هذا الكلام، لكنكَ تسمح له بأن يستعبدَك، ذلك الخنزيرُ القذر!..

كنتُ أهمّ بمُغادَرة المكان غاضباً بدون عودة، حين أمسك بي من ذراعي باسماً وهو يُشير إلى الحُجرة الثانية.. وهرعْنا إلى الدّولاب الصّغير، حيث وجدناها على وشك الاختناق.

ورغم أنّني بتّ تلك الليلةَ بين أحضان دافئة فقد أبتْ حكاية غسلِ حْمّادي حافِرَي جْحا بالماء الدّافئ، في مشهد يُحيل على القرون السّابقة، إلا أن تُنغّص عليّ ليلتي تلك ولياليَ وأياماً أخرى، كثيرة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *