لا تجعل فكرك يذهب بعيدا. الرئيس هو رئيس مقاطعات بنمسيك، وهو صاحب الحفلة وممولها. والمسرحية تعرفها مسرحية الغميضة.
*الدكتور شعيب حليفي
في الأدب كما في الفن والحياة، لابد من وجود مسافة الأمان ومساحتها السحرية، وهي المسافة التي تحفظ للإبداع جمالياته ولا تعدم معانيه أو تخنقها في زاوية ضيقة أو مفضوحة.
عدتُ من أزمور وأنا مندهش ومعجب بالنهر العظيم، أم الربيع، القادم من الأطلس المتوسط، عابرا مئات القرى والحقول والمدن على امتداد حوالي ستمائة كلم، مانحا الجميع من مائه بسخاء كبير، وحينما يصل مُلتفّا حول أزمور التي يتركها على يساره، ولالة عائشة البحرية على يمينه.. يصبحُ مشيه مزهوّا قبل أن ينتبه أن المحيط الأطلسي القابع في المنحنى، بقناع أزرق متموّج، ينتظره ليلتَهمَ ما تبقى منه في قضمة واحدة بلا رحمة.
عدتُ إلى الدار البيضاء وقد صادفت عرض مسرحية الغُمّيضة بمسرح بنمسيك–حي افريقيا (يوم الأحد، الرابع من غشت)، فتوجهت لمشاهدتها وأنا بسؤال شغلني منذ فترة طويلة حول كيف يمكن للثقافة والفن أن يكون قاطرة حقيقية للتنمية والتطور وتجاوز أعطاب المرحلة. وإلى متى الصبر على “الجرائم” التي تُرتكب باسم السياسة الثقافية !! في حق ثقافاتنا.
ولجتُ المسرح قبل التاسعة ليلا بربع ساعة عن بداية العرض، وهو مسرح كبير ورائع، فوجدتُه غاصا بنساء وأطفال وشباب وشيوخ من تلك المنطقة المحيطة، بالإضافة إلى بعض المهتمين من رجال الإعلام والفن.
كل الكراسي مشغولة باستثناء الصف الأول، وبعد مفاوضات صعبة وخاطفة وجدتُ كرسيا في الصف الثالث يسارا إلى جانب شيخ بجلبابه الرّمادي وطربوشه الأحمر الفاقد للشوشة، ملامحه توحي بمحارب عائد من لاندوشين.
لم أتأخر طويلا في اكتشاف مسرحية غريبة خارج الركح تجري أمامي، أبطالها ثلاثة حُرّاس منشغلين بشكل مرتبك، بالحفاظ على كراسي الصف الأول الفارغة وهم يصيحون بانها محفوظة للرئيس وصحابو.
وقد تكرّر الأمر وأثار فضول من كانوا خلفي والرجل الشيخ الذي يجلس على يساري.
تجاوزنا التاسعة ولم تنطلق المسرحية، دون أن ينتبه أحد إلى التأخر لأن الجميع كان ينتظر وصول الرئيس.
وبدوري لم تعد تهمّني المسرحية التي لم تنطلق بعد، بقدر ما صرتُ مهتما بمن يكون هذا الرئيس الذي يتحدثون عنه، وكأن الشيخ الذي كان بجانبي، وقد مال رأسه نحوي، قرأ أفكاري فقال لي:
– لا تجعل فكرك يذهب بعيدا. الرئيس هو رئيس مقاطعات بنمسيك، وهو صاحب الحفلة وممولها.
مرت ثلاثون دقيقة، فتأكدّ لي بأن الممثلين وكل الفريق التقني للمسرحية، بدورهم ينتظرون الرئيس للبدء.
فجأة، ولربما عبر مكالمة هاتفية تمّ تمرير خبر وصول الرئيس، وهو ما انكشف حينما صاح أحد الثلاثة من حُرّاس كراسي الصفّ الأول، في النساء، بالتهيؤ للزغاريد ورفع “الصلاه والسلام”، فيما اهتمّ الحارس الثاني باختيار من سيجلس بجوار الرئيس من أصدقائه ومن الممثلين والممثلات.
وأخيرا رأيتُ الرئيس يلج مزهوا بلباس صيفي أسود، يقبلونه في حنكيْه، والمصوّرون يصورون بلا انقطاع وسط الزغاريد والصيّاح، وقد فقدتُ اندهاشي وصبري..
وما هي إلا دقائق، ومن خلف الستار، جاء صوت الممثل الشرقي سروتي يحيي الجمهور ويقدم الشكر التبريكات للسيد الرئيس وحضوره المشرف.
في التاسعة وثلاثة وثلاثين دقيقة، رُفعت الستارة، ووسط التصفيق تناهت إلى سمعي شهقة شخير للشيخ المجاور لي، فحوّلتُ بصري نحوه وقد نام وتدلى رأسه.
مسرحية الغمّيضة لفرقة مسرح لاكوميدي، من تشخيص الشرقي سروتي ( تمثيل وتقديم وفكرة وإخراج) وجواد السايح ومحمد مهيول وعبد الإله لمسيح.
على مستوى الشكل هي عرض مشهدي من أربع حكايات منفصلة عن بعضها البعض. ولعل المشهد الأولي الذي عرف دخول الشرقي والسايح بقناعين سرعان ما أزالاهما، دون مبرر لماذا وضعاهما ثم تخليا عنهما، وهو أمر سيشكل مفتاحا سحريا لدلالات بعيدة في المسرحية، بالإضافة إلى جملة عابرة نطقت بها وكررتها كل الشخصيات بصيغ مختلفة تتحدث عن المال والحاجة إليه.
بالنسبة لمحمد مهيويل في مشهده قدّم حكاية لتجربة فنية شعبية، وقد كان موفقا بشكل كبير، وظفَ حنكته وبديهته وأسلوبه في بناء شخصية فردية والتعبير عن معاناتها مع نفسها والآخر بسخرية مقطرة.
وكذلك جواد السايح الذي تحرر من النمطية وتفوق على نفسه برسم فانتازيا قابلة للتأويلات، لولا بعض الفلتات منه حينما تحوّل إلى واعظ للنساء والرجال داخل القاعة، أو إلى راقص يجرب حلب المزيد من الضحك والتجاوب.
في حين سيقدم لمسيّح عرضه الذي هو حلقة مؤطرة، تخلق مفاجآتها ولعبها من خلال تواصلها مع الجمهور.
يمكن اعتبار هذه المشاهد تمرينات كوميدية لأربع شخصيات، كما لو أنها أضمومة قصصية لرابطها الحكي والمعاناة والقدر الملازم للفئات الشعبية، وليس التراث والعادات كما توحي بعض الجمل، لأن التراث ليس في المقراج والكنبري وإنما في نسق ثقافي شعبي ممتد على مدى قرون لا ينفصل فيه المادي عن اللامادي، أساسه خبرة إنسانية قادرة على صون الروح من السقوط والاستسلام.
وإذا كانت هناك من ملاحظات يمكن تسجيلها على المسرحية، فهي الارتباك والاستسلام لشيء آخر غير الفن.
فرغم إمكانيات الشرقي سروتي الذي لعب دور بائع القهوة المنسمة بالأعشاب، فإنه قد استسهل المسرح والجمهور وسقط في “المحظور“مما أفسد الفرجة، حينما جعل الكثير من المشاهد تزيغ للمديح المجاني والمباشر للسيد الرئيس والذي بدا مذهولا مرة ومنتشيا مرة أخرى، حتى أن الشرقي ألف أغنية حوله وحول منجزاته في بن مسيك !! حتى تخيّلتُ أن هذا الرئيس، والمناسبة شرط، هو رئيس حكومة وليس مقاطعة ( كان الممثل يخطئ في نطق الكلمة فيقول بن لمسيك وهو الخطأ الموجود في الملصق أيضا) .
حتى أن المتتبع للمسرحية يضجَر من كل المديح الذي لا يليق بالفن أو الفنان، فكبار الممثلين قدّموا عروضهم أمام رؤساء دول ووزراء وأعمدة الفكر والثقافة، وليس أمام رئيس مقاطعة، برؤوس مرفوعة وعزّة نفس عالية، ولم يسقطوا في المجاملات على حساب الفن والجمهور.
بل إن ممثلين وجدوها فرصة ليُحرجوا رؤساء ومسؤولين كبار بطريقة فنية عالية، ولم يعمدوا أبدا إلى مدحهم بهذه الفجاجة التي حوّلت العرض من الفرجة إلى دعائية انتخابية، الفن بريء منها.
لم يسبق لي مشاهدة عمل ما للفنان الشرقي سروتي، ولكنني يمكن الجزم من خلال دوره في الغمّيضة، فهو فنان له موهبة ومقدرة على الارتجال كما لديه القدرة الفائقة ، بطيب خاطره، على تمريغ موهبته في مستنقع صعب، لأن دور الفن هو الإبداع والجمال والنقد الذي لا يُقدّر ولو بكل المال الذي في البنوك باسم السيد الرئيس.
قال لي جاري وقد استفاق مذعورا مما سمع بدعوة الجمهور إلى ترديد المديح في السيد الرئيس الذي صدّق ولم يصدق:
–احثوا التراب في وجه المدّاحين !!
خرجتُ بعد انتهاء المسرحية مستمتعا ببعض فقراتها، ومتألما مما شابها، وقد تركتُ الشرقي سروتي يهمُّ بإهداء الرئيس هدية، تخيّلتُ أنها القناع الذي حمله في البداية، وبعدها شرع ينفخ في المديح بكلام جعل من الرئيس امبراطورا في ليلة من ليالي الصيف.
خرجتُ وأنا أخشى أن يصدق الممثل ما قاله، والرئيس ما سمع، لأن الجمهور يعلم أنها مسرحية فقط.