عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 85

وجبة غداء “سعادة المدير”..

 

في حُدود الثانية عشرة من ظهيرة كلّ يوم، كنّا نتوقف عن العمل للاستفادة من قسط من الرّاحة وتناوُل الغذاء. نُغادر البناية إلى الشّارع بحثاً عمّا نُسكت به جوعَنا، قبل العودة لمُواصَلة العمل المُضْني حتى حدود السّادسة مساء. أحياناً، كنّا نشارك في إعداد بعض الأكلات في مطبخ الدّار.

شكّلت استراحة الغداء مُناسَبة لي للتعرّف أكثرَ على حمّادي، المُكلف بمهامّ توزيع منشورات الدّار وبمرجوعاتها. نشتري بعض ما نسد به الرمق من محلّ بقالة قريب؛ نقطع زقاقاً قريبا، ثم ّنجتاز الطريق السّاحلية ونتّخذ مجلسَينا على الصّخور، قبالة بحر العاصمة. هناك، قرب الأمواج وهي تتلاطم أسفل ناظرَيْنا، نتناول وجبتينا البسيطتين ونحن نحكي لبعضنا عن همومنا وانشغالاتنا الصّغيرة وأحلامنا الكبيرة.

كان حمّادي شابا في مقتبل العمر. لم يتمكّن من إكمال تعليميه. توقفَ في مستوى لا يؤهّله لغير ما كان يُكلّفه به مُشغّله، المُستغلّ البغيض. عليه أن يسهر على توزيع كتب الدّار على مكتبات الرّباط وأكشاكها كلها؛ كما كان مُطالَبا بأن يضبط عدد النّسخ، التي تصل إلى أبعد نقطة بيع مُمكنة؛ بأن يُحصّل المال وبأن يُحصيَ المرجوعات ويعملَ على تخزينها في إحدى غرف الدّار، خصّصها المدير لذلك في الشقّة نفسها. وفي الليل، ينام في الدّار بعين مُغمَضة وأخرى تعسّ على المكان.. مقابل كلّ هذه المهامّ، لم يكنْ أبو جهل يدفع له أكثرَ من ألف درهم في نهاية كلّ شهر!

-هل أصرفها في الأكل أم في تنقلاتي بين شوارع المدينة؟ أبعثها إلى والدتي، هناك، تساعد بها في تغطية مُتطلّبات المعيشة القاسية، أم تراني أدخّنها مارْكيزْ وأشرب بها فناجينَ قهوة وشاي؟..
يتساءل حمّادي، وأمواجُ المحيط تتكسّر بقوة على الصّخور، كما لو لِتستنكر معه واقعَ الحال.

أمرٌ واحد كان مُديرنا عادلاً فيه: أجورُنا، جميعُها بلا استثناء، تُلامس بالكاد الحدود الدّنيا للحفاظ على بعضِ كرامة.

بعد ابتلاع وجبة خفيفة واستعادة مَواجعَ كثيرة، نُغادر مجلسنا ونعود نحو الدّار. قبل أن نصعد الأدراج، في ذلك اليوم الخريفيّ المُتقلّب، التفتَ إليّ حمّادي وقال:
-انتظر قليلا، لقد نسيتُ أن أشتريّ للحْلّوف غداءه.

سرتُ خلفه نحو بقالة السّي الحُسين، في الزّقاق خلف العمارة. طلب حمّادي قطعة “سْنيكرزْ” ودسّها في جيبه. وبعدما ودّع البقالَ واتجه نحو مدخل العمارة، ذكّرتُه بأنه لم يشترِ بعدُ ما جاء من أجله. أمسكني من ذراعي وقد انفجر ضاحكاً:
-ألا تعرفُ أنّ قطعة الحلوى هذه هي كلّ ما يحتاج مُديرُك، الحْلّوفْ، لكي يتغدى؟!
لم أستوعب. شرح لي، ونحن نصعد الأدراج، أنّ سعادة المدير لم يكنْ يتناول، في معظم الأيام، غيرَ قطعة الحلوى تلك غداءً.

جلستُ إلى مكتبي، عند مدخل الباب، ودلف إلى مكتب أبي جهل ليُناوله وجبة الغداء! كانتْ تلك أولَ مرّة أعرف فيها أنك قد تكون مُديراً ولا تتناول غير قطعة حلوى بئيسة وجبةَ غداء. عندما خرج حمّادي من مكتب مُديره ومُديري، اقترب مني واستدرك، ضاحكا، بخُفوت:
-لا تهتمّ لأمره، إنه يكمل ما ينقص وجبته الفقيرة بـ”فيتامينات” ريقنا الغنيّ، الذي يتجرّع كلّ صباح في كأس القهوة.

متى تتوقف المفاجآتُ في هذه البناية الغريبة؟ سألتُني، قبل أن أعود إلى المخطوط أمامي. أطارد ركاكة المكتوب؛ أنتقم من رداءة الأيام ومن أحمقِ أقداري؛ مَن يُصحّح مكتوبي أنا، مَن؟!

لم يكُن مكتوبي الوحيدَ الذي يحتاج تصحيحاً في دار جْحا؛ وربما كان لي في ذلك بعضُ العزاء. لكنّ أغرب مهمّة يكلـّف بها جحا حْمّادي ما شاهدتُ بأمّ عينيّ ذاتَ ليلة اضطررتُ فيها إلى المبيت في الدّار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *