إن السياسة التي اتبعها الملك محمد السادس، رغم استلهامها من سياسة أبيه الحسن الثاني وجده محمد الخامس، لا يمكن اختزالها في “إعادة انتاج متطابق”. فالسياق والقضايا ليست هي نفسها، وهذا أمر بديهي. لذلك سيتم تخصيص هذه المساهمة لهذه المرحلة الجديدة من المغرب، والتي بدأت مع اعتلاء الملك العرش سنة 1999.
بقلم عبد السلام الصديقي
إن دراسة السياسة الخارجية للمغرب، ترتبط على غرار البلدان الأخرى ارتباطا وثيقا بالسياق التاريخي والتجارب المكتسبة عبره. المغرب أمة ذات جذور ضاربة في عمق التاريخ تعود إلى أكثر من اثني عشر قرنا. وخلال هذه الفترة الطويلة، نادرا ما كان منغلقا على نفسه. فهو “إمبراطورية قديمة متشبعة بالتاريخ والثقافة” (بتعبير ليوطي) والتي أقامت علاقات دبلوماسية مع مختلف الدول بقيادة السلطان. ليس هدفنا سرد كل هذا التاريخ الدبلوماسي المعروف والذي شكل موضوع عدة دراسات أخرى. ولكن نود من خلال هذه “اللمحة” إبراز الفلسفة العامة التي شكلت قاعدة بناء السياسة الخارجية للبلاد، والتي تم صقلها تدريجياً طوال هذه الفترة الطويلة من الزمن.
ومن خلال الاعتماد على هذا “التراث الدبلوماسي”، تمكن المغرب من الدفاع بشكل جيد عن مصالحه وإدارة التقلبات الاقتصادية ولعب دور بنّاء في الصراعات الإقليمية والدولية. وبالإضافة إلى هذا المحدد التاريخي، سنسلط الضوء على محددين آخرين لا يقلان أهمية: المحدد الجغرافي الذي يكمن في الموقع الاستراتيجي للمملكة كحلقة وصل بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب. وهذا يجعل من المغرب لاعبا متميزا وأساسيا في كل ما يتعلق ليس فقط بحوض البحر الأبيض المتوسط، بل بالعالم ككل. والمحدد الأخير هو الدور المحوري والبارز الذي يشغله الملك في التسلسل الهرمي المؤسسي والهندسة الدستورية في مسائل السياسة الخارجية، وبالتالي إدامة ممارسة شائعة لأسلافه. ومع ذلك، من اللازم القول إن السياسة التي اتبعها الملك محمد السادس، رغم استلهامها من سياسة أبيه الحسن الثاني وجده محمد الخامس، لا يمكن اختزالها في “إعادة انتاج متطابق”. فالسياق والقضايا ليست هي نفسها، وهذا أمر بديهي. لذلك سيتم تخصيص هذه المساهمة لهذه المرحلة الجديدة من المغرب، والتي بدأت مع اعتلاء الملك العرش سنة 1999.
هكذا، يلعب الملك دورًا بارزًا في شؤون السياسة الخارجية. وهذا يعطي نوعاً من التناغم للسياسة التي تنهجها المملكة واستمراريتها مهما كانت طبيعة الحكومة القائمة. ونذكر على سبيل المثال الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الندوة المنظمة بالرباط بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للدبلوماسية المغربية يوم 28 أبريل 2000، أي بعد تسعة أشهر فقط من اعتلائه العرش… ويعكس هذا الخطاب فلسفة الملك الشاب الجديدة في المسائل الدبلوماسية التي تتماشى مع متطلبات اللحظة وتدافع بشكل أفضل عن مصالح البلاد. فهو يضع الأسس لما ينبغي أن تكون عليه الدبلوماسية الاستباقية والمستقبلية.
وبعد أن أشاد الملك بالعمل الذي أنجزه والده المغفور له الحسن الثاني، الذي كان “آية في فن الدبلوماسية ضليعا في أسرارها ملما بأصولها ومحيطا بشواردها”، عرض فلسفته في هذه العبارات: “إن الديبلوماسية التقليدية بمفهومها الكلاسيكي المتمثل في جهاز وزارة الخارجية والبعثات الديبلوماسية باتت تواجه تحديات كبيرة بسبب التقدم الهائل لوسائل الاتصال والاعلام والنقل والتوسع المطرد للتعاون الدولي وانفتاح المجتمعات على بعضها البعض ضمن عولمة شمولية وتداخل الداخلي بالخارجي وظهور موضوعات جديدة كثيرة ومعقدة وتقنية على جدول أعمال السياسة الخارجية كالاقتصاد والتجارة والمال والنقد والشغل والهجرة والأمن والبيئة وحقوق الانسان والثقافة ودخول فاعلين جدد في العمل الديبلوماسي من مجالس برلمانية وجماعات محلية ومنظمات غير حكومية ومقاولات بل وحتى أشخاص ذاتيين مثل كبار المبدعين والمثقفين والفنانين والأبطال الرياضيين ناهيكم عن المكانة البارزة للمنظمات الدولية الجديدة الاقتصادية والمالية والتجارية وما لها من دور تشريعي متميز والأهمية المتزايدة للديبلوماسية الوقائية”. (مقتطفات من الخطاب الملكي). وهذه الفلسفة الجديدة التي جسدها الملك هي التي لا تزال قائمة.
أكد الملك أن العلاقات بين شركاء المغرب تتسم بالوضوح، خاصة فيما يتعلق بقضية الصحراء: “إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات. لذا، ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”. (مقتطف من خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى 69 لثورة الملك والشعب).
ترتكز إذن عقيدة السياسة الخارجية المغربية على مقاربات شاملة جيوسياسية وجيواقتصادية وجيوثقافية. وهناك ثلاثة مبادئ توجيهية تحكم العمل الدبلوماسي المغربي، وهي الجوار والتضامن والشراكة.
ديبلوماسية متعددة الأبعاد
يعتمد المغرب في إدارة سياسته الخارجية على دبلوماسية متعددة الأوجه: برلمانية واقتصادية وثقافية وروحية ومناخية ومواطنة… وتكمّل هذه الدبلوماسية الموازية الدبلوماسية التقليدية من خلال عمل وزارة الخارجية وشبكة السفارات والقنصليات في جميع أنحاء العالم. والملك هو الذي يعطي توجيهاته السامية في هذا المجال، وفقا لمضمون وروح الدستور.
أعطى دستور 2011 صلاحيات واسعة للمؤسسة التشريعية التي تلعب الآن دورا هاما في الحياة السياسية، وفي المسائل الدبلوماسية سواء مع برلمانات الدول الأجنبية أو مع المنظمات البرلمانية التي يعد المغرب عضو فيها: الاتحاد البرلماني الإفريقي، الاتحاد البرلماني العربي.. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مجموعات الصداقة البرلمانية التي تغطي جميع البلدان تقريبًا، والتي تحتاج إلى تنظيم أفضل، تلعب أيضا دورًا مهمًا.
إن الدفعة القوية التي أعطاها صاحب الجلالة الملك محمد السادس للعمل الدبلوماسي في المجال الاقتصادي من شأنها أن تعزز التحول نحو دبلوماسية تخدم التنمية الاقتصادية للمملكة وتحافظ على مصالحها الاستراتيجية ذات الأولوية. وفي هذا السياق، من الضروري اعتماد مقاربة متجددة، تدعم التنسيق وتجميع موارد مختلف الفاعلين الذين يشكلون نظام الترويج الاقتصادي المغربي في الخارج.
تشكل الدبلوماسية الثقافية اليوم إحدى سمات قوة الدول وركيزة أساسية لإبراز قدراتها على التأثير على المستوى الدولي. وبحكم تاريخه، كأرض تمازج الحضارات، وتنوعه الثقافي وخياراته المجتمعية، يمتلك المغرب مقومات عديدة تجعل من دبلوماسيته الثقافية محورا مركزيا لقوته الجاذبة (القوة الناعمة).
وتستمد الدبلوماسية الروحية للمملكة جوهرها من خصوصيات النموذج المغربي للإسلام. والذي يرتكز على المذهب السني المالكي والعقيدة الأشعرية التي تعزز فضائل الاعتدال والوسطية واحترام الآراء والمعتقدات.
إن مؤسسة إمارة المؤمنين، التي أنشئت على مدى اثني عشر قرنا من الزمن، قد أقامت روابط روحية توحد ليس فقط المغاربة، ولكن أيضا السكان الأفارقة، ولا سيما سكان منطقة الساحل وإفريقيا الغربية.
وقد تم تعزيز دور الدبلوماسية الروحية للمملكة في سياق دولي يتسم حاليًا بانتشار التيارات المتطرفة العنيفة. وبالإضافة إلى دوره المعترف به كمنصة للحوار والتبادل الديني بين العالم الإسلامي والغرب، فقد أثبت المغرب نفسه اليوم كمرجع دولي في الحرب ضد التطرف الديني. حيث أنشأت المملكة في سنة 2014 معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، والذي يقوم أيضًا بتدريب أئمة من تونس ومالي وغينيا وساحل العاج وفرنسا، كما أحدثت أيضًا سنة 2015 مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.
وفي ساحة العلاقات الدولية، تبرز الدبلوماسية الرياضية كاستراتيجية ماهرة تسمح للدول بتسجيل نقاط على الساحة الجيوسياسية. وكما هو الحال في المنافسة الرياضية، تستخدم الدول قوة الرياضة لتعزيز نفوذها وتحقيق انتصارات رمزية. وترتكز الدبلوماسية الرياضية على مفهوم القوة الناعمة، أي قدرة الدولة على جذب الآخرين والتأثير عليهم من خلال ثقافتها وقيمها وإنجازاتها. ومن خلال المواءمة الذكية بين لعبة القوة الناعمة والفرص التي توفرها الرياضة، تستطيع البلدان تحقيق مزايا جيوسياسية كبيرة.
لقد أدرك المغرب تماما دور الرياضة كأداة لتعزيز الحوار بين الثقافات والتعاون الإقليمي. وباستخدام الأحداث الرياضية الدولية وبرامج التدريب والتبادلات الثقافية، تخلق البلاد فرصًا للتفاعل والتفاهم المتبادل بين الأمم. كما تساعدها هذه المبادرات على تعزيز العلاقات بين الشعوب وتعزيز السلام وتمهيد الطريق لتعاون إقليمي أقوى ودائم.
كل مواطن هو “سفير” لبلده
لم يتم تجاهل دبلوماسية المواطن. فالأحزاب السياسية، والنقابات والمنظمات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني، والأوساط الأكاديمية، تتحدث بصوت واحد أينما اجتمعت وتترك جانباً خلافاتها التي يتم تسويتها داخلياً. المغربي يتمتع بهذه الخصوصية: يظل مغربيًا رغم كل الصعاب. والمغاربة المقيمين بالخارج خير مثال على ذلك. فكل مغربي يعيش في الخارج هو سفير لبلاده.
“تشكل خصوصية مغاربة العالم، باعتبارهم حلقة وصل بين المغرب وباقي بلدان العالم، فرصة ثمينة يجـب اسـتثمارها. فمن خلال دورهـم كـ”جسر” بيـن السـوق الوطنيـة والأسـواق الدولية، يمكن لمغاربة العالم أن يساعدوا على تعبئة رؤوس الأموال، وتطوير شراكات جديدة، أو الولوج إلى كفاءات وخبـرات غيـر متوفـرة بالمغـرب، وأيضا الترويج لمنتجات وخدمات مغربية. كما أنه بإمكان الجالية المغربية بالخارج تعزيز جهود الإشعاع الدولي للمملكة المغربية بالاعتماد سواء على البنيات الموجودة حاليا أو على الفضاءات القابلة للتعبئة في بلدان الإقامة، من أجل نشر الثقافة المغربية في الخارج”. يؤكد تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، الذي يعتبر علاوة على ذلك أن مغاربة العالم أحد روافع التنمية في البلاد.
استناداً إلى أسس السياسة الخارجية التي حددها دستور المملكة، والتي يتم تحديثها بانتظام بموجب التعليمات الملكية السامية، فإن العمل الدبلوماسي يتم باستمرار بهدف تحقيق الأهداف الموكلة إليه. إن المبادئ التي توجه عمله واضحة ومحددة بشكل دقيق: الدفاع عن مصالحه الوطنية العليا، والنشاط على الساحة الدولية والإقليمية لتعزيز “علامة المغرب”، والعمل بشكل دائم من أجل السلام والتقارب بين الشعوب وإقامة نظام جديد وأكثر انفتاحا. نظام عالمي عادل ومنصف مع تعزيز العلاقات بين بلدان الجنوب.
الحضور الدائم للقضية الفلسطينية
وغني عن القول، أن الحظيرة العربية الإسلامية هي البيئة الأقرب للمغرب والتي ينتمي إليها تاريخيا وثقافيا. إنها دائرة انتمائه الجماعي التي يرغب في أن يلعب فيها دور الوسيط في النزاعات والمتحدث على المستوى الدولي.
إن القضية الفلسطينية حاضرة في كل مكان، ليس فقط في العمل الدبلوماسي المغربي، بل أيضا في الذاكرة الجماعية للشعب المغربي. وباعتبارها قضية وطنية، فإن المغرب ملتزم بكل الوسائل إلى جانب الشعب الفلسطيني. ودون الخوض في تاريخ هذه العلاقات، يجب علينا ببساطة التذكير ببعض الأحداث الأخيرة: إنشاء الملك الحسن الثاني في سنة 1975 للجنة القدس التي تجمع الدعم للقضية الفلسطينية في جميع أنحاء العالم العربي، وكذلك “وكالة بيت مال القدس” سنة 1979. ومن خلال رئاسة هذه اللجنة من قبل الملك محمد السادس، أصبح المغرب المحاور المميز للقوى الكبرى المعنية بالقضية الفلسطينية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. في الآونة الأخيرة، وفي أعقاب الحرب التي شنها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، اتخذ المغرب، بقيادة الملك، مبادرات مختلفة: تقديم خطة سلام، وإرسال مساعدات لسكان غزة…
العلاقات مع مجلس التعاون الخليجي ممتازة للغاية، لدرجة أن هذه المجموعة عرضت على المغرب العضوية في سنة 2011. وإذا لم تتوفر بعد شروط هذا الانضمام، فإن المغرب يتمتع بمكانة خاصة، وهي “الشراكة الاستراتيجية الشاملة والمتجددة” التي تربط الطرفين، والتي أرسى أسسها صاحب الجلالة الملك محمد السادس وإخوانه قادة دول مجلس التعاون الخليجي، منذ انعقاد القمة المغربية الخليجية بالرياض في 20 أبريل 2016.
ظل المغرب مرتبطا بجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي بوصفهما هيئتين للتشاور والمناقشة، وتسوية الصراعات، واتخاذ القرارات الجماعية، ومواجهة التحديات المتعددة التي تواجه العالم. ويدعو دائما داخل هذه المنظمات، التي كان أحد مؤسسيها، إلى شرعية وتغليب ثقافة الحوار البناء على المواجهة العقيمة. ولا تزال بلادنا متمسكة بالمثل الأعلى المغاربي واتحاد المغرب العربي الخماسي الذي أسست له معاهدة مراكش في 17 فبراير 1989. لن يُجهض المغرب أبدًا هذا الأمل الذي حفز دائمًا شعوب المنطقة والزعماء الخمسة المؤسسين لاتحاد المغرب العربي. وهذا هو الموقف الذي تبناه في علاقاته مع القارة الأفريقية.
إفريقيا للأفارقة، شعار جلالة الملك
علاوة على ذلك، بُنيت سياسة المغرب الإفريقية على أساس خطاب دبلوماسي غير مقيد واستباقي، يدعو في الوقت نفسه إلى القطيعة مع النظرة الضيقة للعالم الثالث، وتفكيك الخطاب المتشائم، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وأخيرا إلى نمذجة التعاون بين البلدان الإفريقية على أساس الاستيلاء السيادي على ثروة القارة. ومن الواضح أن المغرب عازم على إظهار أن مصيره مرتبط ارتباطا وثيقا بمصير إفريقيا، من خلال تملك معايير القارة ورهاناتها، لكنه غير منغلق على منطق حتمي، ويريد أن تكون لديه قدرة معينة لتحديد دوره بنفسه. علاوة على ذلك، فإن توسع الشركات المغربية الكبرى عبر جزء كبير من القارة يتسارع في العديد من قطاعات الخدمات (البنوك والتأمين والتعليم والاتصالات) وفي التعدين وإنتاج الأسمدة.
تهتم الدبلوماسية المغربية اهتماما وثيقا، لأسباب تاريخية وثقافية واضحة، بتطوير علاقاتنا مع الدول الأوروبية رغبة في تخليص هذه العلاقات من بصماتها الاستعمارية والاستعمارية الجديدة. وهذه العلاقات أكثر كثافة مع الدول الأورومتوسطية مثل إسبانيا، وفرنسا (قوتين استعماريتين سابقتين) وإيطاليا وبدرجة أقل البرتغال. والروابط مع هذه المجموعة متعددة: اقتصادية ومالية وثقافية وإنسانية. وهكذا، تم توقيع أول اتفاقية تجارية مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية في سنة 1969. وتحولت هذه الاتفاقية إلى اتفاقية التبادل الحر في سنة 1996 (دخلت حيز التنفيذ في سنة 2000) بعدما تطورت المجموعة الاقتصادية الأوروبية إلى الاتحاد الأوربي.
لكن، إذا كانت هذه العلاقات قد صمدت أمام التقلبات الظرفية، فقد مرت بفترات (باردة)، بل وحتى عداء في أوقات مختلفة. لكنهم دائمًا ما ينتهي بهم الأمر بالعودة إلى طبيعتهم من خلال التغلب بشكل إيجابي على الخلافات دون التضحية بمصالحنا الاستراتيجية والوطنية. وكان هذا هو الحال مع إسبانيا وألمانيا ومؤخراً مع فرنسا.
عدم الانحياز النشط
على عكس العديد من البلدان النامية، لم يتبنى المغرب أبدا سياسة خارجية منحازة لكتلة معينة، فميله لصالح النموذج الغربي لم يمنعه من إقامة علاقات استراتيجية مع قوى أخرى غير غربية مثل الصين والاتحاد السوفييتي وبعد ذلك روسيا والهند. إنها “لعبة” دقيقة تتقن الدبلوماسية المغربية قواعدها تماما. ويجني المغرب ثمار هذه السياسة، خاصة فيما يتعلق بالدفاع عن وحدته الترابية. وبالتالي، لا تدعم أي دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن أطروحات الانفصاليين وحاميتهم.
وإذا اقتصرنا على علاقات المغرب مع الدول الكبرى، فهذا لا يعني أن هذه العلاقات ضعيفة أو غير قائمة مع بقية دول العالم. بل على العكس من ذلك، المغرب حاضر في كل البلدان وفي كل القارات، وصوته مسموع في كل اللقاءات والمحافل.
لقد جعل المغرب من التعاون جنوب-جنوب خيارا استراتيجيا. ومن هذا المنطلق، لم يكف جلالة الملك عن الدعوة إلى إقامة عالم أكثر توازنا يأخذ في الاعتبار مصالح بلدان الجنوب: ” نؤكد على ضرورة إرساء شراكة طموحة تربط بين العالم العربي وإفريقيا بدول أمريكا الجنوبية، في نطاق تعزيز الحوار والتعاون جنوب – جنوب “. (مقتطف من الرسالة الملكية إلى المشاركين في الاحتفالات المقامة في إطار تخليد الذكرى الــ 50 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والبيرو في 23 يونيو 2014)
وفي السياق ذاته، جاء في رسالة جلالة الملك إلى القمة الثانية بين الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية في 31 مارس 2009: “لقد كان المغرب، باعتباره بوابة للعالم العربي على أمريكا الجنوبية، من الدول السباقة لإقامة شراكة جادة بين المجموعتين، حيث تشرف باحتضان لقاءات هامة، قبل قمة برازيليا وبعدها.
ختاما، من حق المرء أن يتساءل كيف يمكن لبلد مثل المغرب، ذو الوزن الاقتصادي المتواضع، أن يحقق الكثير في مجال سياسته الخارجية ويلعب مثل هذا الدور المؤثر على الساحة الإقليمية والدولية؟ سنعيد صياغة السؤال بطريقة بسيطة وتوضيحية: كيف يمكن تفسير هذه الهوة الشاسعة بين الوزن الاقتصادي والديموغرافي المتواضع للمغرب (بالكاد يمثل 0.014% من الناتج الإجمالي العالمي0,012% من سكان العالم في سنة 2022) و”ثقله الدبلوماسي” النوعي من خلال التأثير الذي يلعبه وسمعته على المستوى الدولي؟ تقدم المعطيات الواردة بشكل مختصر في هذا المقال بعض عناصر الإجابة على هذا السؤال:
إن المغرب دولة عريقة لم تولد في إطار المؤتمرات الدولية. لقد حافظ على علاقات ثابتة مع بقية العالم، وخاصة مع أوروبا، حيث رصدنا فترات من الثقة تتناوب مع لحظات من الصراع. أما الجزء الآخر فيتعلق بشخصية مهندس السياسة الخارجية للمغرب، أي صاحب الجلالة. فالملك محمد السادس أحد الفاعلين في التاريخ الحديث ولكن حاسما للغاية، حيث واصل سياسة والده الحسن الثاني، وطبع السياسة الوطنية. هناك بالفعل “أسلوب محمد السادس”.
يهيمن منحدر مرتفع على طنجة، باتجاه الغرب: رأس سبارتيل مغروس مثل المحراث في الأمواج. وعلى مسافة، في نصف ضباب متلألئ، هرم جبل طارق. هنا المحيط، وهناك البحر الأبيض المتوسط. خلفنا إفريقيا، وفي متناول اليد أوربا. يجب أن يكون لديك القليل من الخيال حتى لا تحلم قليلاً بهذا النتوء الذي ضربته كل رياح التاريخ والأساطير، وأن تكف عن البحث هناك عن موضوعات ملهمة للدبلوماسية”.
إن هذا الاقتباس، من مؤرخ كبير، (Lacouture)لا يعكس فقط مدى تعقيد شبكات العلاقات التي يمكن أن يُطلب من المغرب تطويرها، بل يعكس قبل كل شيء تنوع الخيارات وتنوع السياسات التي يمكن للبلاد القيام بها.
وهكذا فإن المغرب لم يضع أبدا “بيضه في سلة واحدة.” ومن خلال عمل في غاية الدقة، كان قادرًا على الحفاظ على التوازن بين القوى الكلاسيكية والقوى الناشئة.
وأخيرا، سلط المغرب الضوء على “القوة الناعمة” كعنصر من عناصر القوة، ونادرا ما لجأ إلى “القوة الصلبة”. يعرف جوزيف ناي Joseph Nye القوة بأنها “القدرة على الفعل، وفي مواقف اجتماعية معينة، أن يكون لها تأثير على الآخرين مما يسمح بتحقيق الهدف المحدد”.
- ملحوظة: هذا المقال عبارة عن ملخص لدراسة مطولة ستنشر قريباً في عمل جماعي.
ترجمه للعربية عبد العزيز بودرة