عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 84

مُديرٌ برُتبةِ.. أبي جَهل!

 

في صباح اليوم الموالي لمشهد كأس “القهوة”، استقبلتْني زبيدة ضاحكةً وهي تشرح لي بعضَ التّقنيات التي تعلّمتها هنا من سابقتها ألباب دفاعاً عن النّفس ضدّ حماقات مدير ليس مثلَه مُدير. شعرتُ بأنّها تُحاول التّأكد من أنّني أساندُهم في خططهم الجهنّمية ضدّ مُديرهم وأنّني لن أبوحَ له بسرّهم حول “قهوة الصّباح”..

اختصرتُ عليها الطريق وأفهمتُها أنّني لن أبيعَهم للمُدير، في كلّ الأحوال. اطمأنّت وواصلت حديثها عن الدّار وعجائب الدّار. عرفتُ منها أنّ كأس القهوة المُميَّزة التي احتساها مُديرنا أمس حتى آخر قطرة، أو بالأحرى “تنخيمة”، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة! قالت، أيضا، إنّ قصّة الكأس تقليدٌ ورثوه عن ألباب، التي أمضت هنا سنوات طويلة، قبل أن تصفع المدير، بطريقتها الخاصّة، وتختفيّ عن الأنظار، رفقة زوجها.

بعد حين، حضرت ألطاف. ودون مقدّمات، انخرطت معنا في الحديث. بعد أن حازت إجازة في الحقوق من كلية الرّباط، جاءت إلى هنا بتوصية من أحد أساتذتها وكلها حماس وتحفّز لتصنع تاريخها الصّغير، بدل الارتكان، في بيت الأسرة؛ إلى زاوية انتظار عطف الدّولة، الذي قد يأتي وقد لا يأتي. جاءت الدّارَ تتعلم أبجديات نقل حروف مخطوطات أدبائنا وأساتذتنا إلى عالم التكنولوجيا، فإذا بمُدير الدّار لا يجد أدنى حرج، منذ الأيام الأولى لحلولها بضيعته الصّغيرة، في أن يُضيف إعدادَ قهوة الصّباح إلى أجندة مهامّها اليومية.

لم تحتجْ ألطاف إلى غير أيام قلائلَ كي تُعلّمها زبيدة، إلى جانب مهارات النّقر على الحاسوب، طريقة لردّ الاعتبار لكرامة مرّغها سيادة المدير في وحل إذلال الذات الجامعية المُتعلمة بأوامرَ ونواهٍ لا علاقة لها بكلّ النظريات والتيارات التي تعرّفتْها خلال المُحاضَرات الطويلة في حجرات الدّرس وفي المُدرّجات؛ في بلدٍ تتربّص بمُتعلميه كثيرُ أمراض اجتماعية ونواقصُ بنيوية وعُقد نفسية غريبة.

ارتأى بوشكارة، بأنانيته المُفرطة حدَّ المرض، أن يدفعها إلى الاستمرار في إعداد كؤوس القهوة والشّاي، التي ربّما كانت ما يدفعها إلى الهروب من بيتها كلّ صباح.. حين احتاجت إلى وسيلة تُعبّر بها عن استيائها ورفضها الوضعَ غيرَ الصّحي، كانت زبيدة هناك (لا شكّ في أنها عانت، بدورها، في مرحلة سابقة، من شوفينية مُديرها) كي تُعلّمها أساليبَ سلمية للرّد على عنجهية “مُولْ الدّارْ”؛ تعلمتها بدورها من سابقتها ألباب؛ وربّما تعلمتها الأخيرة من غيرها.

في فترة تدريبي هنا، سابقا، كنتُ قد عاينتُ أنّ الأجواء غيرُ عادية على الإطلاق بين جُدران الدّار الكئيبة، لو يدري مُدير الدّار. كان جميع المستخدَمين مُتوتّرين إلى درجة لم يكنْ بإمكاني حتى الاستفادة منهم في ما يمكن أن ينفعني في إعداد بحث التخرّج. وبعد واقعة كأس القهوة، بدأتُ أستوعب أنّ هؤلاء المساكين، المغلوبين على أمرهم مثلي، قد طوّروا بعض الوسائل لردّ هجمات المدير العدوانية لسبب/ أسباب ما لا يعرفها غيرُه.

بعد أن احتسينا كؤوسَ شاي، كنتُ حريصاً على تتبّع جميع مراحل إعداده، كي لا أشرب بدوري ترياقَ أحدهم أو إحداهنّ هنا، انكببتُ على مطاردة الهفوات والأخطاء، النحوية والإملائية والتركيبية والشّكلية في المخطوط أمامي. وكانت، بين الفينة والأخرى، تحدُث أمور جانبية داخل المبنى الضيّق تُبعدني عن تركيزي. أضع القلم جانباً وأتطلّع إلى ما يجري. تفاصيلُ صغيرة تكسر رتابة اليوميّ وتُؤرّخ سيَرَ شباب مُتعلّمين يتعرّضون لأنواع من الاستغلال تعود إلى غيرِ أزمنتنا. من أجل رواتبَ نحيفة يحتمّلون ما قد لا يخطر على البال من صغائر نفس شخصٍ ليس، بالتأكيد، الوحيدَ المسؤول عن تكريس هذا الوضع غير الطبيعيّ بتاتاً..

مَن يُسائل قوانين الشّغل البالية وينفض الغبار عن أنماط التعاقدات التي تحكم علاقات أصحاب رُؤوس الأموال وطاقات البلد المُتطلعة إلى صنع نهضة الوطن، المغلول بأعراف لامرئية لا توفر إلا ظروف التقهقر!؟ مَن يقف خلْف هذا العُرف غيرِ الظاهر، الذي يجعل ربَّ العمل فوق أيّ مُحاسَبة أو رقابة؟ مَن يُوقف استبداد هذا الأخطبوط المُخيف، الذي لا يجد سعادتَه إلا في جعل الأغلبية المُتعلّمة الخبيرة تشقى في خدمة رأسمال غبيٍّ لا يستطيع أن يرى أبعدَ من أطماع قِلة أحكمتْ قبضتها على دواليب الاقتصاد والثقافة والإعلام والرّياضة؛ وهلمّ سياسةً واجتماعاً وسياحة، وحوّلتها إلى ميادينَ ينخُرها الفساد والمصلحة الذاتية؛ وقِسْ على ذلك تخلّفاً؟!..

بتوالي الأيام، وأنا في ركني من الدّار (وكان الله في عون النّشر في بلاد تكثر فيها مثلُ هذي الدّار) ترسّختْ لديّ القناعة بأمورٍ طالما حاولتُ أن أقنع نفسي بأنّني مُخطئ بشأنها. لاحظتُ، منذ فترة التدريب، أنّ كلّ عمل سعادة المُدير يقتصر على مكالمات هاتفية؛ فما إن ينتهي من إحداها حتى ينخرط في أخرى. عدا هذه المكالمات وعُلبتَي السّجائر، اللـّتين كان يدخّن كلّ يوم بمتعة لا تُضاهى، ما كان يؤدّي عملا ذا بال على امتداد ساعات النهار سوى الحرص، ما أمكنه ذلك، على جعل يوم الواحد منّا قطعة من جحيم في داره.. أقصد، في ضيعته.

حين يتطلب الوضع رأيَ المُدير للحسم في مشكلة ما، يتبينُ لي، كلّ مرّة بكيفية أوضحَ من سابقتها، أنْ لا علاقة له بالمجال! أن تكون مُدير دار للنّشر ولا تعرف حتى كيف تُشغّل حاسوباً أو توقف تشغيله دون أن تكتفي بفصله عن موصل الكهرباء؛ فكيف ننتظر منك أن تحُلّ مسألة فيها خلافٌ، لغويةً كانت أو فنية أو جمالية أو تقنية؟!

كان، أحياناً، يستوقفني وأنا غارقٌ في عملي، أشطّب على ما لا يصلح من الكلمات والتعبيرات وأستبدلها بأخرى أجدها أنسَب. يتدخّل لكي يناقش أو يعترض على ما أقوم به. بعد نقاش قصير، كان يتناول المخطوط من أمامي ويُنادي بأعلى صوته “الشّريفْ، الشّريف”، أو يسرع إليه حيثما كان. يُشاوره في الأمر لحظات، ثم يعود إليّ، خائباً دوماً، ليضعَ الأوراق أمامي ويختفي، مُتعثراً في أذيال بلادته.

طالما أضحكَني منظره المُثير للشّفقة وهو يحاول الاعتراض على ما لا يفقه فيه شيئا؛ ثمّ حين يكتشف تخليَ ساعده الأيمن عنه وتبنّيه وجهةَ نظري، ينزوي في مكتبه كأيِّ جاهل حزين تدخّلَ في ما لا يعنيه إلا من بعيدٍ، لو يدري، لكنّه كان في كلّ مرّة يدري أنه لن يَسمع مني إلا ما لن يُرضيَه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *