عبد الرزاق بوتمزار

ح. 83

حين فعلْنَا “تـّفـُووو” في قهوة المُدير!

عندما يذوب جليد احتياطات الأيام الأولى وتتراجع مساحاتُ تَوجّس البدايات بينك وبين من يُحيطون بك، في دراسة أو عمل، تكتشف ويكتشفون كم هي مُتشابهةٌ أحوالكم والأوضاع إلا في صغير التفاصيل.. بدأتُ أتعرّف العناصرَ التي تُشكّل فريق عمل الدّار، واحدا واحدةً، كلَّ يوم أكثرَ فأكثر. صار الشّريفْ أقربَ هؤلاء إليّ، بحكم أننا كنّا نُؤدّي الوظيفة ذاتَها في دار النّشر تلك في زمان فاصل بين أواخر ألفية وبداية أخرى.

بقدْر ما يكون مُديرٌ ما خنزيراً في تفكيره وتصرّفاته، بقدْر ما يُبادله مُستخدَموه المَشاعرَ الخنزيرية ذاتَها! واحدة من الخلاصات التي خرجتُ بها من تلك الدّار (ومن دور أخرى بعد ذلك). حين تمضي فترة أطولَ في مكان مغلق مع أشخاص تعيش معهم لحظاتٍ قد تبلغ مُستويات من الغرابة، تظلّ جميع مُحاوَلاتك القبضَ على تفاصيلها مُجرَّد عبث لا طائل منه..

عدَدتُ، دوماً، أنّ دَور المسكونين أمثالي بلوثة مُطارَدة لحظات الأزمنة المُنقضية عبر تعرّجات الكلمات وتقاطعاتها هو الإمساك بدقائق التفاصيل وتحويلها إلى محكيّ يستحقّ كلّ دقيقة من وقتَينا: وقتي وأنا أعجنه في كلام مقروء، ووقت القارئ المُفترَض، يعْبُر فوق مَركب حكيي ليستعيد حكاياه. لكنّ الحياة تُخبّئ لنا، أحياناً، مَشاهدَ لا تُنقَل، أحداثاً لا تُوصَف، تعجز دون تطويعها الكلمات؛رغم ذلك سأحاول..

ذاتَ صباح من أيام عملي في الدّار، ستشُلّ المُفاجَأة حركاتي وتُجفّفُ منبع الرّيق في فمي. تقدّمتْ ألطاف نحوي بالكأس الفارغة وقرّبتها كثيراً من فمي، وهي تحُثـُّني على أن أتكرّم على القطعة الزّجاجية المُقعَّرة الطويلة ببعض لُعابيّ الصّباحي! عندما تيقنتْ من أنّني بعيدٌ عن أن أفهم شيئا ممّا كانت تطلب مني، أدْنتِ الكأس من فمها وبصقتْ فيه!

-فقط افعلْ مثلي، مُنَّ على مُديرك بترياق صباحيّ من ريقك!
قالتْ، وهي تبتعد عني نحو زبيدة، التي ظهَر، من ضحكتها وإرسالها بصقة حارّة نحو قاع الكأس، أنها لم تكن المرّةَ الأولى التي تفعل ذلك ويفعلون.

-تـّفـُوووو..
قالوا؛ كلّ واحد على حدة، وألطاف تطوف عليهم بالكأس الطويلة، واحداً واحدة، قبل أن تقصد غلاي الماء الذي تركته فوق النار، في المطبخ المُجاور، وتملأ الكأس بالماء المُغلّى.

-أرأيتَ؟ هكذا لم يعدْ يظهر أيّ أثر لكلّ بصاقنا!
قالت، وهي تضيف البُنّ إلى الماء السّاخن وتُحرّكه جيّداً، وسط ضحكات الجميع وتعليقاتهم الشّامتة. بعد ذلك، طرقت الباب ودخلتْ إلى مكتب السّيد المُدير وقدّمتْ له كأس “القهوة” وخرجتْ وهي تُسرع الخطو، مُبتعدةً عن المكتب قبل أن تفضح فعلـتَها ضحكاتُها.

-باشْ نْورّيه يْعاودْ يطلبْ منّي نْصاوبْ ليهْ لـْقهوة!.. هِئْ هِئْ هِئْ..
وعلتِ الضّحكات القسم التقنيّ، الذي تركتُه مشدوهاً، مثل “دْمدُومة” لأجلس إلى مكتبي وأدفن جهْلي بحقيقة ما يجري في المكان بين أوراق المخطوط أمامي.
تأكدتُ، بعد ذلك، غيرَ مُصدّق ولا قادر على الحركة أو الكلام، من أنّ سعادة المُدير اعتاد، وهو يتلذذ بقهوته الصّباحية وسيجارته الأولى في مكتبه، أن يُرسل إلى جوفه “تنخيمات” جميع مُستخدَميه. كان المُدير يشرب إذن، كلّ صباح، قهوةً مخلوطة، ليس بالسّكر، الذي لم يكن يستهلك؛ بل بلعاب وريق كلّ هؤلاء الحاقدين من حوله، الذين يُنشّف ريقهم كلّ يوم بصُراخه الحيوانيّ وبأوامره المُتعالية الجاهلة. فليذيقوه أمَرَّ من كلّ ذلك قبل حتى أنْ يبدأ هو في البصق في وجه كرامتهم وكرامتي بكلّ حماقاته و”حڭـْرته”، دون استعد لأيّ ردّ أو اعتراض.

نعم؛ قد درجوا على سقيه، من خلال كأس القهوة العجيبة تلك، جميعَ معاني الرّفض والاشمئزاز من شخصه الكريه ومن جبروته، الذي رأوا منه الكثيرَ ورأيتُ.

تـّفـُووو.. كيف أضعْتُ تلك الفرصة؟! قلتُ لنفسي لحظات بعد ذلك، وأنا أرى المسكينَ يُغادر مكتبه، والكأس الفارغة في يده. راقبته وهو يلج المطبخَ الصّغير ويضع الكأس ويغسل يديه وفمَه، قبل أن يعود أدراجه نحو مكتبه. انتبهَ إلى نظراتي. دنا مني وسألني إن كنتُ أريد منه شيئاً.
-لا، لا. قلت له. لا أريد منك شيئا. (وماذا عساني أحتاج منك أيّها المُغفَّلُ المسكين؟! يكفيك ما أنت فيه). ضحكتْ أعماقي من الموقف. (تستحقّ أكثرَ من ذلك في الحقيقة).

ظلّ ذلك الحدَث، الذي لم أملك يوماً الرّغبة ولا الشّجاعة للمُشاركة فيه، راسخاً في ذهني، كأنه وقع ليلة البارحة فقط. وحتى بعدما تكرّرَ المشهد كثيرا في ما بعدُ، ظللْتُ لا أستوعب كيف يكون حقدُ مرؤوس على رئيسه بكلّ ذلك الـْ”تـّفـُووو”..

قالتْ ألطاف في ذلك الصّباح البعيد، وقد انتبهتْ إلى أنّني ظللتُ أتابع تحرّكاتها بعينيّ المُتفحّصتيْن:
-من يظنني، القرْدُ الغبيّ؟ سكرتيرتَه؟ طباخته؟ أم خادمةً في بيته!؟ لقد جئتُ إلى هنا بحثاً عن عمل في تصفيف الكلمات على جهاز حاسوب وليس بحثاً عن عمل في تصفيف كؤوس القهوة والشّاي فوق مكتبه؛ الجاهلُ ابنُ الجاهل! فليشْربْ بْالصّحة وْالرّاحة، كما سيشرب دوماً، كلما أمرني، الخنزيرُ، بإعداد قهوة الصّباح له…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *