ظل الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي على علاقة بالشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري، منذ أن كانا، في عقد الخمسينات من القرن الماضي، مقيمين في القاهرة ويكتبان في صحفها.
لكن حينما سألته، خلال مشاركته في منتصف عقد الثمانينات في موسم أصيلة الثقافي، عن تعليقه على ما قاله الفيتوري في تصريح صحافي، بأنه، أي البياتي، بعد ديوانه “أباريق مهشمة” لم يكتب أي شيء، وأنه انتهى شعرياً، جاء رد البياتي عنيفاً إذ مسح فيه الفيتوري من الوجود.
قال البياتي: “أنا لا أعرف من هو الفيتوري، وماذا يعمل؟ فأنا أعرف على سبيل المثال العديد من الأشخاص يلقبون بالفيتوري، ويمتهنون مهناً مختلفة، فمن هو يا ترى من بين هؤلاء؟”.
لم يكن البياتي يتوانى عن رفع راية الأنا في علياء الشعر، ففي حوار أجريته معه، ونشر يوم الأحد 20 تموز (يوليو) 1989 في الملحق الثقافي لصحيفة “الميثاق الوطني” المغربية التي توقفت عن الصدور في كانون الثاني (يناير) 2002، سألته أيضاً عن تواصل الاختلاف الشديد بين النقاد حول من كتب أول قصيدة للشعر الحر، وهل كتبها بدر شاكر السياب أم نازك الملائكة أم هو؟ وكان آنذاك قد مر أكثر من أربعين سنة على ظهور حركة الشعر الحديث.
كان البياتي طريفاً حتى اللسع في تعليقه على رفاقه وزملائه. وأسدِل هنا الستار بطرفة روتها لي صديقة روائية عراقية التقت البياتي في عمان قبل وفاته بأشهر، وذلك في معرض حديثهما عن الشاعر نزار قباني، إذ قال: “مسكين نزار قباني. أنقذه كاظم الساهر وغنى له قصائده فأصبح مشهوراً”. وهذا مجرد غيض من فيض.
قال البياتي: “من كتب الأول، ليس لذلك أهمية سوى الأهمية التاريخية”، ولذلك سيهمل الإجابة عن هذا الجانب ويركز الإجابة على جانب آخر، مشيراً إلى أن الدكتور إحسان عباس، وهو ناقد كبير، أجاب عن هذا السؤال في كتابه “الشعر العربي واتجاهاته”، إذ ذكر أن الملائكة والسياب هما أول من اشترع هذا الأسلوب في الشعر، ولكنه يعتقد أن إنتاجهما الأول ظل يحمل المواجد الرومانسية للشعر العمودي.
وهنا رفع البياتي سيف الأنا من جديد: “هو يعتبرني – أنا – الشاعر الأول الذي استطاع استخدام هذا الشكل، بحيث إنه لا يكون هناك تناقض بين استخدام هذا الشكل ومضامين القصائد التي أكتبها”.
وفي معرض حديثه عن ذكرياته مع أقطاب حركة الشعر العربي الحديث، تبين من كلام البياتي أنه لم يكن على معرفة شخصية كبيرة بالشاعرة الملائكة، وقال إنها تخرجت في دار المعلمين قبل دخوله إليها، ومن ثم فإنه لم يتعرف إليها هناك، بل تعرف إليها في السنوات التي تلت ذلك، وكان لقاؤه بها عابراً.
أما السياب، فيقول البياتي: “فكان يسبقني بعام واحد، وأصبحنا صديقين منذ اللقاء الأول”، وبقيا متلازمين إلى أن تخرجا في دار المعلمين، وآنذاك دب الخلاف بينهما لتدخل بعض “أولاد الحلال”، بحسب تعبيره، بينهما. ولم يخف البياتي أنه ظل يكنّ الإعجاب والتقدير للسياب طوال حياته.
ويستطرد متحدثاً عن علاقته به: “في المراحل الأولى بعد تخرجنا حصلت بيننا مشاحنات أدبية ولكنها كانت طبيعية بالنسبة إلى عمرينا أو بالنسبة إلى فورة الشباب الأول. وأذكر أنه عند وفاته تألمت آلاماً شديدة، وأن هناك قصيدة كتبتها عنه، ونشرت في ديوان “الكتابة على الطين”، وقد اعتبرها النقاد من أهم قصائدي”.
بالنسبة إلى الشاعر العراقي بلند الحيدري، الذي حرص على المشاركة في مواسم أصيلة الثقافية حتى وفاته في السادس من غشت 1996، وبادلته المدينة وفاءه لها بإقامة حديقة وجائزة تحملان اسمه (حديقة بلند الحيدري، وجائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب)، يقول البياتي إنه تعرف إليه “منذ سنة 1945، ولكنه ظل على هامش حركتنا”.
يرفع البياتي ببلند عالياً، إلى حد ما، بالقول: “يعني هو كتب الشعر الحر أيضاً، وكنت معجباً به”، بيد أنه سرعان ما سيطيحه نحو الأسفل، حينما قال: “لكن لأسباب ذاتية وموضوعية، فإن القراء لم يصنفوه ولم يضعوه بين الرواد”. هكذا فرق البياتي دم شعر الحيدري بين قبائل القراء، معلناً براءته من ذلك، براءة الذئب من قميص يوسف، موضحاً: “هذه قضية أنا لست مسؤولاً عنها. حركة النقد والقراء هم المسؤولون عنها”.
وبشأن رأيه في المفهوم “الأدونيسي” للحداثة، رمى البياتي الشاعر أدونيس بثالثة الأثافي، وقال: “هو ليس بمفهوم أدونيسي، إنه مفهوم منقول من أقرب دكان أوروبي، وضيق الأفق أيضاً”، معتبراً أن أدونيس “يحب التنظير والنقد، بالإضافة إلى ذلك فإن الأفكار التي جاء بها هي أفكار كانت شائعة، ويتناقش فيها الناس قبل ثلاثين سنة، أو أكثر، وقد كفوا عن ذلك، وهو وصلته الموجة الآن. ولهذا فإن انصرافه إلى هذه القضايا جعل منه شاعراً من الدرجة الثانية، حيث انحصر إبداعه منذ سنوات، كما أن ما يطرحه من قضايا لا ينطبق على شعره إطلاقاً”.
ما قاله البياتي عن مجايليه من الشعراء، يكاد يكون ثقافة سائدة بين المثقفين والأدباء والشعراء. فثمة حروب “داحس والغبراء” متعددة ومتنوعة بينهم. وأذكر يوم كنا جالسين في فندق “الخيمة” في أصيلة حول مائدة فيها البياتي والشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي وآخرون من الكتاب والأدباء. وألفيت نفسي متحمساً للحديث عنه وعن ديوانه “مدينة بلا قلب”، معتقداً أنني أبليت بلاءً حسناً في إبراز اطلاعي على قضايا الشعر. وما هي إلا لحظات حتى قام حجازي متوجهاً إلى غرفته. فالتفت البياتي نحوي، وقال بألم: “والله خيبت ظني فيك يا حاتم، بذمتك (حلاق إشبيلية) هذا تعتبره شاعراً؟ إنه ليس حتى شويعراً”. آنذاك أصابتني صدمة، وحمدت الله أنني لست شاعراً وإلا كانت نيران البياتي الصديقة قد أردتني.
كان البياتي طريفاً حتى اللسع في تعليقه على رفاقه وزملائه. وأسدِل هنا الستار بطرفة روتها لي صديقة روائية عراقية التقت البياتي في عمان قبل وفاته بأشهر، وذلك في معرض حديثهما عن الشاعر نزار قباني، إذ قال: “مسكين نزار قباني. أنقذه كاظم الساهر وغنى له قصائده فأصبح مشهوراً”. وهذا مجرد غيض من فيض.