عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 82

صَحّحْ فقط وصحّحْ!

لم أستطع، كما رسمتُ دوماً في أحلامي، أن أختم مشواري الدّراسي بإصدار كتابي الأول. كان الحلمُ قد استبدّ بي في سنتَي دراستي الجامعية في كلية بابْ الرّواحْ إلى الحدّ الذي جعلني “أتجرّأ” على رئيس الشّعبة وأقترح عليه أن أتقدّمَ بكتابٍ من بنات أفكاري لنيل شهادة التخرّج ضمن إجازة علوم الكتاب.

كم كان غيرَ سديدٍ رئيسُ الشّعبة وهو يرفض مُقترَحي، قلتُ لنفسي، وأنا أقبل بالفكرة البديل: تقرير عن سير عملية إعداد مكتوب ما للنّشر؛ تحت سماء بلاد يستطيعُ فيها أيُّ “بوشكارة” أن يصير ناشراً. تأجّلَ حلمي بإصدار رواية كنتُ قد خططتُ صفحاتها في سنتيْ مقامي في الرّباط.

كنتُ، في الحقيقة، قد كتبتُها كي أتقدّم بها لجائزة اتحاد الكتاب للأدباء الشّباب؛ لكنّ الأيام القليلة التي كانت تفصلني عن تَجاوُز عتبة الشّباب ومرحلة لاحقة من عمري (لا أدري ماذا تُسمّى) لم تُسعفني في إتمام ما نويت. فحين انتهيتُ، أخيرا، من تأليف الرّواية ومن طبع النّسخ المطلوبة وتسجيل العمل في “ديسْكيتْ”، كما ينُصّ على ذلك الإعلان الذي وزّعه اتحاد الكتاب، اتّصلتُ بالرّقم الذي وضعه تحت تصرّف شباب مُتأدّبي المغرب؛ ليُجيبَني صوتٌ نسائي بأنّ الأجَل الذي حدّدته الجهة المنظمة قد انصرم بالكاد! ولأنّني كنتُ على مشارف الثلاثين في ذلك الصّيف البعيد، فقد أيقنتُ أنّ تلك المكالمة الهاتفية قد أنهتْ جميعَ آمالي في الفوز، يوماً، بجائزة اتحاد الكتاب لشباب الأدباء أو حتى مُجرَّد المُشارَكة فيها مع المُشاركين.

طمرتُ كلَّ مُخطَّط لنشر كتابي في أحد رفوف الذاكرة وتفرّغتُ لضبط إيقاعات كتُب الآخرين. كنتُ أصحو في حدود السّاعة الثامنة وأستقلّ الحافلة نحو حيّ المُحيط وأنا أخال نفسي، برحلاتي اليومية بين مقرَّي السّكنى والعمل، أخطو أولى خطواتي في درب مسار أدبيّ، أو على الأقلّ مِهني، حافل. “كم أنتَ واهمٌ”! كانت تصرخ في وجهي، كلَّ يوم بصوت أعلى، الحقيقةُ القائمة على الواقع الصّلبة أرضُه.

لسببٍ أو أسباب ما، ارتأيتُ وارتأى جحا الدّار، منذ اليوم الأول، أنّ أنسَبَ مهمّة لي داخل داره هي أن أمسك قلماً أحمر وأتربّصَ بهفوات كتّاب البلاد ومُنظّريها ممّن كانت تسوقهم أقدارُهم الحمقى، كما ساقني قدري الأحمقُ، إلى مكان يمكن أن تُعاينَ فيه أشدَّ حالات الجنون المُمكنة في السّير بالمخطوط في مراحل تدرّجه ضمن سلسلة صناعته ووضعه في مُتناولالأيادي القارئة في أكشاك الوطن ومكتباته وعند نواصي الشّوارع وفي أروقة المعارض، الموسمية طبعاً والنّادرة.

يضع المُدير أمامي مجموعة أوراقٍ مكتوبة بخط اليد، مشروعَ كتابٍ؛ وعليّ أن أقرأه وأحارب شوارده وأضبط كلماته وفقراته. اِقرأْ، أيّها الحالمُ بطبع مكتوبك، ما جادت به قرائح الآخرين؛ انقضَّ على ما عافت القواعدُ، كلمات وأنساقاً وتركيبات وضحلَ تعبيرات.. أجهزْ على أيّ تجاوُز أو نسيانٍ أو سهو من الذات الكاتبة المُفترَضة. اعترضْ طريقَ العليل والمُطنب والمُسهب بين الكلمات والحروف المُتلاحقة المُسترسلة. جدْ في نفسك الاستعدادَ الدائم للفتك، بلا رحمة، بكلّ شاردة أو شائبة. صحّحْ فقط؛ ولو تأجّلَ تصحيح ُوضعك أنت إلى أجَل!

أبداً، ما وجدتُ في نفسي غيرَ كامل الحماس لمُصارَعة سفاسف الكلام وغربلته، في أفق الاحتفاظ بالنسخة التي ترضى عنها الذاتُ القارئة؛ بعينين تقطران تحفّزاً وقلم قد يفيضُ أحمرَ أكثرَ مما يمكن أن يتصوّر مُؤلّفونا المُفوَّهون والناشرون، أكثر ممّا يمكن أن تتصور أنتَ نفسك!..

عندما أنهيتُ تصحيحَ كتابي الأول بين جُدران داره -الكئيبة لو يدْري- أذكر أنّ المدير تلَقّفَ الأوراقَ من يدي بسرعة واختفى، بخطواته الشّيطانية السّريعة. أغلق مكتبه وسمعتُه، بعد لحظات، يُنادي على شخصٍ عرفتُ، لاحقاً، أنه ساعده الأيمن ومرجعُ ثقافته، المحدودة، في ميدان النّشر. عاد إليّ لحظاتٍ بعد ذلك، تسبقه ابتسامة ماكرة وملفّ أثقلُ من سابقه، يضُمّ مخطوطَ كتاب آخر.

لم يكنْ يحتاج إلى كلّ ذلك القدْر من المكر الذي غلّف به ضحكتَه الصّفراء وهو يدفع إليّ بالأوراق قائلاً، وهو ينفث دخان إحدى سجائره الأزلية التي لا يكفّ دخانها عن الانسلال من بين أسنانه الصّفراء المقيتة:
-خذ هذا الكتاب وافعلْ به مثلَ ما فعلتَ بسابقه.. أرى أنك تستعمل القلم الأحمر كثيراً!
-هذا ما أعرف فعله؛ أرجو ألا أكونَ قد خيّبتُ ظنّك؟!
-أحتاج وقتاً أكثرَ لكي أحكم على عملك؛ في انتظار ذلك إليك بهذا الكتاب، اعتنِ به جيداً، إنّه إصدار مهم لكاتب معروف، كما سترى، ونحن نعوّل عليه لزيادة مبيعات الدّار..
قالها وهو يتطلع إليّ بعينيه الضّيقتين، قبل أن يدلف إلى مكتبه ويغلق خلفه البابَ. سمعتُ ضحكاتهما وكلمات تبادَلاها، وإنْ كانت أذناي لم تلتقطا ما كانا يقولان ولا على ماذا يضحكان.

ومثلَ ما فعلتُ بالكتاب الأول، “زوّقتُ” الثاني بمداد أحمرَ وفق ما ارتأيتُ مُناسباً لتقويم المكتوب. لمْ تعنِ لي شيئاً ملحوظته عن أهمية المخطوط وشهرة صاحبه ولا خُطط الدّار عنتْ لي شيئاً؛ أشتغل بالطريقة ذاتها، لا فرْقَ عندي بين هذا وذاك؛ بتوصية أو بغيرها.

في حدود الخامسة مساء، قمتُ من مجلسي في المكتب البئيس، في مدخل الدّار. طردَتني أدراجُ العمارة إلى الشّارع الفسيح. سرتُ قليلاً حتى بابْ الحْدّ، حيث اعتدتُ أن أستريح قليلا وأستمتع ببعض هوايات صغيرة، قبل أن أستقلّ الحافلة نزولاً نحو حيّ الفتح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *